04-يناير-2024
 (الصورة: Getty)

(الصورة: Getty)

يقال إن أهم درس يتعلمه أصحاب المآزر البيضاء هو ببساطة فنّ التعامل مع المريض، ويقال أيضًا أن من يوسمون بـ"ملائكة الرحمة" كتعريف موحد لهم راجع إلى أنّها من الصفات التي تسمح بتحسّن نفسية المريض بمجرد ما يتلقّى معاملة طيبة أو لطيفة ممن يقابلونه عند طلبه للعلاج، خاصة وأن المستشفى أو المشفى ما هو إلا عتبة من عتبات البحث عن تسكين للأوجاع الظّاهرة للعيان، بينما تلك المخفية وراء نفسية المريض كثيرًا ما يُشفيها طيب حسن معاملة أو تشجيع وجبر خاطر.

لا أحد ينكر اليوم أن هذه المعاملات أصبحت في خانة العادي أو المألوف داخل المؤسسات العمومية والخاصة

 في المستشفى كثيرًا ما يتعرّض الشّخص المرافق للمريض إلى أسئلة غالبًا ما تكون عفوية من الممرضين أو الأطباء، ولكن تكون أشدّ قسوة إن كانت مرتبطة بطبيعة في الإنسان وهي "الفُضول"، ففي المدن الصّغيرة على سبيل المثال لا الحصر، الجميع يعرف الجميع، فيظلّ السؤال الأكثر إلحاحًا هو ذلك الذي يبدأ بـ"هل أنت فُلانة؟ أو هل أنت والدة فُلان؟"، وبينما يغفو المرضى ويفيقون على الوجع والألم يجر بعض أعضاء السّلك الطبي إصرار على معرفة الكثير عن الحالة العائلية للمريض من قبيل: من هو؟ من أين جاء؟ وماهي صلة القرابة بين المريض والمرافق له أو المرافقين له؟ وما صلته بفُلان أو علاَّن إن كان اللّقب هو نفسه؟   

حكايات كثيرة تروى في أروقة المستشفيات، وكثير منها يصيب المرضى بإحباط شديد، خاصة إن ذهبوا في مقارنة حالهم ببعضهم البعض، أو معرفة هوية الرفيق.. الابن أو البنت أو زوج البنت أو زوجة الابن، وغالبًا ما ينتج عن ذلك تعليقات تُسقط المريض في وحل التّفكير لمجرد انتقاده وسؤاله عن مكان أولاده ولماذا تخلو عنه.

هنا، تقول الأخصائية النّفسانية بأحد قاعات العلاج كريمة منداسي، إن مثل هذه الأسئلة قد يفتح الباب أمام ألم نفسي لا يتحمّله الأصحاء فما بالك بالمريض، وتضيف أن أحد معجزات التعابير الجزائرية: "الحكم على الآخر وتحميله المسؤولية ثم إشعاره بالذنب دون معرفة مسبقة لوضعه أو ظروفه التي جعلته يصل إلى فضاء لتلقي العلاج، خاصة وأنه من أصعب الأماكن التي يدخل إليها، وهو يواجه أسئلة لا تمتّ بصلة مع "إنسانية الوضع والموقف".

وشرحت منداسي في حديث إلى "الترا جزائر" أن بعض الأسئلة وكثيرٌ سواها كبعض التعاليق الجانبية، قد تُدخِل المريض إلى متاهة لا يمكنه الخروج منها إلا وهو معكّر المزاج وبنفسية متعبة تؤثر على صحته، وذلك لأن الكلمة الجارحة تخفِّض من معنويات الإنسان وتطرحه إلى الأسفل والإجابات عنها معلّقة، في حين تفعل بعض الكلمات ما يمكن أن تجبر قلبه وترفع من معنوياته حتى وهو يُواجه أمراضا قاتلة.

عُقدة الإدارة

في رحلة البحث عن العمل أو تقديم طلب للحصول على وظيفة، أو طرح ملفّ التربّص المهني، لعلّ من الأمور التي باتت "تُخيف" الجزائريين هذا السؤال: من أرسلَك؟ هو السؤال العُقدة أو " المُخجِل" كما يصفه كريم بنابي (31 سنة) لـ"الترا جزائر"، موضّحًا أن كثيرين تتعثّر حظوظهم بسبب هذا السؤال خاصّة إن ذهبوا فارغين من إجابات، إلّا بملف يحملونه أو سيرة ذاتية يرون أنها ستحقّق لهم الغرض.

غالبًا ما يعوّل البطالون أو الباحثون عن وظائف على "معارفهم" أو وساطاتهم أو على شخص أرسلهم إلى إدارة عمومية ما أو مؤسسة اقتصادية، إذ يقول بنابي إن الطريق للحصول على عمل يمرّ عبر ذلك السؤال الفضولي، بالرغم من أنها ليست قاعدة يرهن عليها الشّخص آماله ويبني عليها طموحاته، فلربما يكون الفرج أقرب بكثير والمسار أسهل بمجرد أن تسمح الفرصة.

لا أحد ينكر أن هذه المعاملات أصبحت في خانة العادي أو المألوف، في المقابل يتحسّر البعض عن بساطة حياتهم وقلة حيلتهم في العثور على جواب عن من أرسلهم لتلك البوابة الإدارية أو المؤسسة، إذ تعتقد سمية قرفي وهي طالبة ماستر علم اقتصادية بجامعة الجزائر، أنّ هذا النوع من الأسئلة وغيرها كثير حطم طموحات آلاف البسطاء من العائلات الفقيرة أو ما يوصفون بـ"أولاد الزَّوالية".

عاشت قرفي هذه الحالة لأكثر من سنتين منذ أن بدأت تدقّ الأبواب للحصول على عمل، غير أن محاولاتها باءت بالفشل، مشدّدة في حديث مع "الترا جزائر" على أنّها تريد تفكيك عقدة سؤال من أرسلك؟ أو هل عندك "مَعْرِيفَة"؟ أي هل تعرفين أصحاب النّفوذ والمكانة هنا؟

مرض يحتاج علاج

تحوّلت هذه الأسئلة إلى "عدوى" تتنقّل في مختلف المؤسسات بين مكان وآخر، وانحسرت معه الكفاءات وأصحاب السير الذّاتية والخبرات، وصار كثيرون  يدخلون بعض الإدارات وهم يحملون ثِقل عدم ملكية الأجوبة على تلك الأسئلة المُغلقة، مع الخوف من التعرّض للإهانة النّفسية، بل حتى أن أصحاب الكفاءات أصبحوا يبحثون عن وساطات للالتحاق بمناصب عمل، حيث تشكّل وعي جمعي أن المهارات والشهادات والخبرات لم تعد وحدها كافية للترشح لوظيفة ما.

إلى هنا، يعتقد الباحث في علم الاجتماع وليد هباز أن الكثير من الطموحات تكسرت أمام جدار سميك يتطلب من الباحثين عن منصب عمل في إدارة من الإدارات، المرور عبر عدة قنوات غير رسمية للحصول على تلك الخدمة.

وقال الأستاذ هباز في تصريح إلى "الترا جزائر" إن تفشي هذه الممارسات من شأنه أن يصيب المجتمع بعدوى لا مناص منها، رغم أن السلطات العليا في البلاد كثيرًا ما شددت على ضرورة تكسير هذه الحواجز وتقديم خدمة كريمة للمواطن، إلا أن الواقع يسير عكس هذا التيار.

تشكّل وعي جمعي أن المهارات والشهادات والخبرات لم تعد وحدها كافية للترشح لوظيفة ما

طرح آخر يمكن الوقوف عنده، فبالرغم من انتشار هذه العقلية الإدارية المرضية بعض الشيء في عديد المؤسّسات، إلا أنّ هناك بعض الاستثناءات في الشركات التي تعترف بالشهادات العليا والكفاءة والخِبرة أيضًا، لكنّها تظلّ الكفّة الأضعف في ميزان عقلية الإدارة في المؤسّسات خاصة في مجالات الخدمات.