26-فبراير-2024
الحراك الشعبي

(الصورة: أمنيستي)

فسّر متابعون قبل عدّة أسابيع، مسارعة السلطات لتنظيم لمسيرة مؤيّدة لفلسطين، لمرة واحدة منذ بدء العدوان على غزة، بأنها تندرج ضمن خوفها من عودة الحراك الشعبي بعد منع التظاهر منذ سنوات، إذ أن كسر جمود الشارع، حسبهم، سيؤدي إلى انفلاته وخروجه عن السيطرة وبالتالي يمكن أن يؤدّي ذلك إلى انفجار الشارع وعودة احتجاجات مشابهة لما كان يحدث سابقًا، بسبب الوضع الاجتماعي الحالي والأزمات الاقتصادية التي تعرفها البلاد.

هل فرض الواقع على النشطاء مسايرة التغييرات التي تحدثها المنظومة السياسية الحالية والانخراط فيها بغية تغييرها من الداخل؟

في هذا السياق، تُطرح أسئلة كثيرة متعلقة بجدوى الحراك الشعبي، تدور حول إن كان الشارع الجزائري قد تعثّر بعد خمس سنوات من الحراك الشعبي في 2019؟ وهل فرض الواقع على النشطاء مسايرة التغييرات التي تحدثها المنظومة السياسية الحالية والانخراط فيها بغية تغييرها من الداخل؟ أم فرضت عليهم التنحي من الواجهة السياسية خاصة في ظلّ المتابعات القضائية التي لاحقت العديد منهم؟

اللحظة التاريخية لم تكتمل في نظر البعض، رغم الانخراط الكبير للآلاف في الحراك والالتفاف حول مسألة واحدة وهي رفض استمرارية المنظومة السياسية الحاكمة آنذاك وقطع الطريق أمام العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019).

لكن ذلك الغضب الشعبي لأزيد من سنة كاملة أصابته الكثير من التحولات أفرزت انقسامات في صفوف ما يصفه الإعلام بالنشطاء السياسيين، سواءً أكانوا أفرادا أو تحت غطاء حزبي أو في منظومة جمعيات مدنية أو تحت صبغة سياسية أو فئة طلابية.

النّفس القصير ..

أدت التطورات خلال هذه الفترة أي منذ 2019 إلى 2024، إلى انقسام الفاعلين السياسيين في علاقة مع النشطاء السياسيين إلى ثلاثة فئات: فئة ارتأت الوقوف على الهامش ونفض يدها من أي فعل سياسي أو نشاط فعلي ميداني، واختارت الانسحاب من الواجهة السياسية وتوديع الانخراط في الشأن العام من قريب أو من بعيد، بينما اختارت الفئة الثانية طوعًا البقاء في خانة المعارضة ضمن أطر سياسية معترف بها (مسموح بها)، ولكنها تعثّرت في مواصلة المسيرة والقيام بأي نشاط؛ وذلك بسبب الملاحقات القضائية والزج ببعض النشطاء في السجون أيضًا، أما الفئة الثالثة فهي من أمسكت العصا من الوسط واقتنعت بفكرة التغيير من الداخل كحلّ جذري للإصلاح أو إعادة الإصلاح للمنظومة السياسية الموجودة، وذلك عبر الانخراط في مؤسسات الدولة والعمل على التغيير بالممارسة في الميدان ومن خلال أطر إدارية في مختلف القطاعات.

التصور السائد حتى قبل 2019، انحصر في خانة عدم قدرة المنظومة السياسية التي حكمت البلاد خلال العقدين الأخيرين، إذ صارت عاجزة على مواجهة التحديات التي تطرحها الطبقة السياسية والاستجابة لاهتمامات المواطن البسيط خاصّة منها تحسين ظروفه المعيشية، وعليه سقطت كفة هذه المنظومة على الأرض لعدم تمكنها من كسب رضى المكونات السياسية التي عرفتها الجزائر منذ التعددية الحزبية في 1990، والمواطن على حدّ سواء، وهو ما يعني أن القوى المحسوبة على المعارضة والمواطن أيضًا كانت تعلّق آمالا كبرى على تجربة الحِراك.

قرار الابتعاد عن السياسة، سببه الإصابة بالإحباط السياسي عقب حمى التغيير التي لحقت بالعشرات من الحالمين، كما قال الناشط السابق والمترشح في الانتخابات التشريعية (قائمة حرة) محمد بوسام لـ" الترا جزائر"، مشيرًا إلى  أنه بالرغم من "بوادر الأفق السياسي المشرق الذي بدا واضحًا مع تنظيم انتخابات رئاسية واستفتاء الدستور ثم وملاحقة ما سمي بـ"العصابة" قضائيًا، إلا أن الأمور لم تنفرج بسبب التضييق على الفعل السياسي في الميدان خصوصًا في الشأن المحلي واستمرارية وجوه محسوبة على المنظومة السابقة في دواليب الإدارة المحلية.

وأضاف في تصريح لـ" الترا جزائر" أن الزج بكثير من المسؤولين في السجون وكبار إطار الدولة في فترة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، لا يعني أن العمل السياسي الحر سيكون متاحًا وأن التغيير سيكون قريبًا.

سقف التوقعات

رغم النفس القصير الذي بدا عليه الكثير من الخائضين في غمار المنافسات الانتخابية منذ نهاية 2019، إلا أن محاربة رموز الفساد ومكافحة بؤره في البلاد أحد مؤشرات التغيير، بحسب البعض إذ "لا منجي لأي شخص أخذ أموال الشعب دون وجه حق"، إذ كانت بصيص الأمل لدى البعض، غير أن الفرص الضئيلى للوصول إلى حلول وسطى مع القوى السياسية، أثبت تعثّر التغيير. 

ولكن خلال خمس سنوات، وفي خضم المظاهرات الأسبوعية والمسيرات وفتح مساحة النقاش في الفضاءات العامة، التي توفرت آنذاك، تسببت في كشف الغطاء عن عديد الأسماء التي تمت ملاحقتها قضائيًا والزج بهم في السجون، فبالأرقام، كشف الناشط في مجال حقوق الإنسان، زكي حناش، عن وجود 228 معتقل رأي في السجون الجزائرية إلى غاية منتصف شهر كانون الثاني/ينار الماضي، بالرغم من إجراءات التهدئة التي أقبلت على تنفيذها الحكومة الجزائرية واستفاد العديد من الشباب من البراءة بعد تورطهم في ما وصفه رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان عبد المجيد زعلاني  بـ "إلحاق الضرر بالوطن من خلال تصريحاتهم ومنشوراتهم".

هذه الإجراءات مازالت في مستوى متدني من سقف انتظارات النشطاء السياسيين، الذي تعرض بعضهم للملاحقات القضائية وزج ببعضهم في السجون، ما جعل من مسافة التغيير طويلة أكثر بكثير مما كان يعتقده كثيرون.

إلى هنا، يشير النّاشط السياسي محمد عميرات (أستاذ جامعي) إلى أن التغيير السياسي "عملية معقدة جدًّا تتداخل فيها عدّة أطراف أوّلها الإرادة الشّعبية التي تطمحُ إلى نظام ديمقراطي، فضلًا عن الكشف عن الأطراف التي أسهمت في تغيير البنى التشريعية وقوانينها".

وأكد عميرات لـ"الترا جزائر"، على ضرورة أن يكون لصانع القرار السياسي تصور واضح في تحرير النظام السياسي وفتح منابر حرية التعبير، وليس الغلق الكبير الذي نشهده اليوم سواءً في الفضاء العام، أو في المنابر الإعلامية.

خارج الصندوق

هذه الأفكار بقيت على هامش طموحات كثير من النشطاء السياسيين، خاصة وأن التسليم بعدم وجود وصفة جاهزة للتغيير هي واقع موجود، خصوصًا أمام محاولة المنظومة القائمة في تفكيك الأزمات عن طريق"المراقبة الصارمة ومسك زمام المبادرة في عملية التغيير السياسي رافضة الانتقال الديمقراطي ومختلف مشاريع الإصلاح التي عرضتها مختلف مكونات المجتمع في الجزائر".

على عكس الفئة التي رمت المنشفة، دفع النشطاء السياسيون "الثّمن" مقابل الحرية والاعتقاد بأن التغيير قادم لامحالة، بالرغم من خفوت فورة الحراك الشعبي وتوقيف المسيرات بسبب وباء كورونا وخمول الأحزاب السياسية.

بعيدًا عن الراديكالية السياسية، فالفئة الثالثة وهي فئة انخرط فيها كثيرون، اقتنعت بفكرة التغيير من داخل المؤسسات ومنهم من تقدموا إلى الانخراط في المنافسات الانتخابية كانتخابات المجالس البلدية والولائية والانتخابات التشريعية.

هذه الفئة آمنت بأن التغيير لن يكون خارج الصندوق، أو خارج إطار اللعبة السياسية وإنما عبر محاولات النقاش السياسي وتقديم المشاريع التغييرية والرامية للإصلاح والانحياز إلى الفعل وليس البقاء في دائرة ردّ الفعل. 

وبخصوص هذه الفئة هناك من انضموا إلى مؤسّسات حكومية وتشريعية ومجالس منتخبة أو الانخراط في أحزاب سياسية تسعى إلى التّغيير على المدى الطويل.

وصفة جاهزة

من المهم الإشارة، إلى أن التغيير، بحسب خبراء السياسة، يلتقي مع عدة مجالات تارة، بل ويتداخل معها تارة أخرى، إذ كان الانتقال الديمقراطي مرحلة مؤقتة، محفوفة بعديد الشروط زمانيا لتحقيق التغيير السياسي المنشود، لكن للانتقال تداعيات غير محمودة العواقب، لذا ارتأى البعض التأكيد على أهمية الإصلاح السياسي كعملية تغييرية على مستوى النّظام القائم، وفي داخله وبأدواته وبقادته السياسيين، وذلك ما حدث في الفترة الأخيرة، أي أنّ النّظام الموجود يقوم بتعديلات على مستوى الممارسة السياسية وفي مختلف مؤسّسات الحكم، والتي بدورها تُمكّن القائمين عليها من وضع ترتيبات دستورية جديدة لإرساء نموذج ديمقراطي.

ويؤكّد الباحث في العلوم السياسية ياسين لهامل، على تقاطع الإصلاح السياسي مع التغيير السياسي، خاصة وأن تقييم الحراك الشعبي بعد خمس سنوات غير ممكن، لأنه ينضج على نار هادئة، في انتظار فتح فضاءات حرية التعبير، في ظل استمرار المتابعات القضائية بسبب منشورات في الفضاء الافتراضي، مشيرًا إلى أن التغيير السياسي يبقى "نشاط منظّم يسعى إلى تعديل أو تبديل أو إعادة تشكيل الواقع السياسي القائم".

وأضاف الأستاذ لهامل في تصريح لـ"الترا جزائر"، بأنه لا يمكن أن ننتظر قطف الثمار مباشرة في فترة قصيرة، لأن هذه العملية معقّدة جدًا ومتشابكة بين عدة عوامل وفواعل، وأشار إلى أحد إيجابيات الحراك الشعبي الذي مكّن من إخراج الجزائريين للشارع، ما أدى إلى ارتفاع منسوب الوعي الشعبي لرفض مظاهر الفساد والمطالبة بفتح المجال للتعبير ومحاربة أساليب القمع بطرق قانونية.

الناشط السياسي محمد عميرات لـ "الترا جزائر": التغيير السياسي عملية معقدة جدًّا تتداخل فيها عدّة أطراف أوّلها الإرادة الشّعبية التي تطمحُ إلى نظام ديمقراطي

لكن أسئلة وكثير سواها تظلّ تطرح بعد خمس سنوات من الحراك الشعبي منذ الـ 22 فبراير/ شباط 2019، فهل مازال حلم التغيير وانعكاسه على حياة المواطن مستمرًا؟ أم أن شمس الحراك الشعبي غابت ولن تعود؟ أم هي تسير وفق قانون كوني تغيب لتعود لاحقًا؟ أم أن الواقع يفرض مسايرة التغييرات السياسية القائمة وقطف الثمار واحدة بواحدة؟