صار اتفاق السلم والمصالحة في مالي الموقّع بين أطراف النزاع في 2015، بوساطة جزائرية ورعاية دولية، من الماضي، إذ اختارت السلطات المالية التنصل منه كما فعل أسلافها قبل ثلاثة عقود.
أستاذ دراسات العنف السياسي آدم قبي لـ"الترا جزائر": أسوأ سيناريو يمكن تصوره هو تفكك الدولة المالية، التي تعدُّ الحلقة الأضعف في منطقة الساحل والأكثر عرضة لزعزعة الاستقرار في المنطقة
وقال آدم قبي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ورقلة لـ"الترا جزائر" إنّه "من الواضح أنّ السلطات المالية انسحبت من اتفاق 2015 ولم تعد جزءًا منه، على ضوء المواقف التي أبانت عنها منذ الأربعاء الأخير على إثر استقبال السلطات الجزائرية لمحمد ديكو شيخ الزواية الكنتية في 19 كانون الثاني/ديسمبر الجاري".
وفي الواقع العملي جرى الإجهاز على الاتفاق، قبل أشهر بعد شن الجيش المالي حملة عسكرية على مناطق تموقع قوات المعارضة والاستيلاء على مدينة "كيدال"، عاصمة إقليم الأزواد، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي بمساعدة المجموعة الأمنية الروسية "فاغنر"، وتبعًا لذلك أعلنت المعارضة المسلحة التي تدعو لفصل شمال البلاد، نهاية الاتفاق، لتأتي التطورات الأخيرة المتسارعة لتأكيد ذلك، بالهجوم غير المسبوق على الجزائر راعي السلام بين أطراف النزاع، بعدم الاعتراف لها بدور الوسيط بذريعة استقبال الشيخ ديكو، وبتصفية حسن آغ فاغاغا، أحد قادة المعارضة على الحدود الجزائرية بضربة جوية.
وهو الأمر الذي لم تتجرأ على فعله أية حكومة سابقة منذ اندلاع النزاع، الذي تفجّر قبل 60 عامًا، في تغيير لقواعد الاشتباك، ثم التمادي في مواقف مستفزة عبر التقارب مع المغرب، الذي أطلق ما تعرف مبادرة "من أجل تسهيل ولوج بلدان الساحل إلى المحيط الأطلسي"، التي تنافس خطة جزائرية تتولاها وكالة التعاون الدولي الحكومية.
وليست المرة الأولى التي تتنصل فيها الدولة المالية من اتفاقات سلام مع المعارضة الأزوادية، فقد تمّ إبطال اتفاقات وتفاهمات رعتها الجزائر في عامي 1991 و1995 بعد حرب أهلية عنيفة، ولكن المرة الأولى التي يتم الإخراج بهذا الشكل المُحرج لراعي السلام.
وكان ردّ الدبلوماسية الجزائرية هو الدفاع عن اتفاق السلام والخطوات التي اتخذتها بصفتها وسيطًا ما يعطي لها استقبال أطراف الأزمة بمن فيهم المعارضين، مُحاوِلة بقدر الإمكان عدم الدخول في مواجهة مع باماكو في فترة حساسة على المستوى الداخلي حيث يجري الترويح لحصيلة الرئيس الحالي عبد المجيد تبون بمن فيها المنجزات الدبلوماسية.
وتركت بالمقابل الأمر لصُحف موالية للحكومة (خاصة) لقيادة حملة إعلامية تستهدف رموز الحكم في مالي وهم: آسمي غويتو قائد المرحلة الانتقالية، الوزير الأول تشوغويل كوكالا ووزير الخارجية عبد الله ديوب، المسؤولين عن تخريب اتفاق السلام، حسب هذه الجرائد.
أستاذ العلاقات الدولية توفيق بوقاعدة حذّر من تبعات إطلاق حملة إعلامية ضدّ القادة الماليين فهو خيار غير مكلف ويهدد بتعميق الأزمة وإثارة رد فعل من الجهة الأخرى
ولاحظ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الجزائر، توفيق بوقاعدة، أن "الأزمة غير المسبوقة بين البلدين هي محصلة تراكمات يتصدرها الاندفاع المالي لتجاوز الاتفاقات الموقعة مع المتمردين في الشمال في 2015، ومحاولة الجيش فرض أمر واقع جديد بقوة السلاح والنظر إلى الجزائر كعائق أمام هذه الخطط"
ورغم إقراره بوجود أشياء خفية في هذه الأزمة، حمّل، بوقاعدة، في تصريح لـ"التر جزار" جانبًا من المسؤولية للحكومة الجزائرية باستقبالها رموز المعارضة المالية "دون إطلاع الحكومة في باماكو على ذلك، لأن ذلك سابقة في سجل الدبلوماسية الجزائرية. "
وهنا حذّر من تبعات إطلاق حملة إعلامية ضدّ القادة الماليين، فهو "خيار غير مكلف ويهدد بتعميق الأزمة وإثارة رد فعل من الجهة الأخرى"، مستطردًا: "من الغريب أن تعوض الصحف وزارة للخارجية وتعبّر عن توجهات الدبلوماسية الرسمية".
خط نار على الحدود
لم يُفاجئ الموقف الرسمي المالي الجزائر، فقد توفّرت لها قبل أشهر معلومات وثيقة عن وقوع تقارب بين حكام باماكو وقوى معادية لها، في سياق خطة لإنشاء خط نار حول الحدود الجزائرية يمتد من الشرق عبر تونس وليبيا ومناطق الجنوب والجنوب الغربي، ومحاولة عزلها عن فضائها الاستراتيجي بل ولما لا تفجير نزاع إقليمي، في سياق عملية تشتيت لها وإضعاف موقفها خدمة لأجندة خارجية وضربًا لمحور الممانعة والسقوط في إغراء التطبيع.
ورغم الإحراج الذي سببه الموقف المالي والرد المتشنج على استقبال المعارض ديكو، يؤمن الجانب الجزائري، بأن قضية الاستقبال لم تكن إلّا ذريعة فقط لحُكام مالي، فالأسباب أعمق من قضية استقبال شخصية سياسية معارضة لها قدرة على تحريك الشارع.
وتدرك السلطات الجزائرية أنه لا بديل للحكام العسكريين سوى العودة لطلب الجزائر كما تم سابقًا، بعد أن تنفذ منهم الخيارات، وخصوصًا أن الجزائر تُعدّ منفذًا رئيسيًا للمساعدات والبضائع والموارد الطاقوية، التي تدخل البلاد التي تخضع لعقوبات اقتصادية.
المحلل السياسي التشادي عيسى جبرين لـ "الترا جزائر": واثق من أنّ الجزائر تتوفر على مفاتيح لتتجاوز الأزمة
وتنتظر السلطات الجزائرية إلى الإشارات التي سترِد من الشارع والقوى غير الراضية على خيارات الحكام الجدد الذين يفتقدون لإجماع داخلي.
وفي هذا السياق، أشار أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، عبد الحق بن سعدي، إلى أنّ "الماليين يدركون بما تقوم به الجزائر لأجل بلدهم ودورها في الحفاظ على وحدة مالي واستقراره."
وبدوره رافع المحلل السياسي التشادي، عيسى جبرين، في إفادة لـ "الترا جزائر" عن أمله في تطبيع للعلاقات إذ يتوجّب على الحكومتين "مراعاة مصالحها الإستراتيجية المشتركة والسعي لإيجاد أرضية متفق عليها والعودة بالعلاقات الثنائية إلى سابق عهدها".
وتابع: "على الطرفان أن يوضّحا وجهة نظرهما لمنع مزيد من التصعيد إلى مستويات تتجاوز البلدين"، وبنبرة تفاؤل قال: "واثق من أنّ الجزائر تتوفر على مفاتيح لتتجاوز الأزمة".
مخاوف
ويثير تطور الأوضاع في مالي مخاوفًا لدى دول الجوار من اندلاع حرب شاملة وموجة نزوح جديدة للاجئين إلى بلدانهم والأخطر في ذلك انتعاش النشاط الإرهابي في المنطقة مع تواجد قوات أجنبية.
وقال الأستاذ الجامعي آدم قبي، المختص في دراسات العنف السياسي، إنّ "أسوأ سيناريو يمكن تصوره هو تفكك الدولة المالية، التي تعدُّ الحلقة الأضعف في منطقة الساحل والأكثر عرضة لزعزعة الاستقرار في المنطقة لأسباب من بينها الاختلافات العرقية وإخفاق الدولة المركزية في احتوائها."
مضيفا أن ضعف الدولة "أدى إلى تزايد عدم الشعور بعدم انتماء سكان مناطق الشمال وأعطى شرعية أكبر للعنف كسبيل لتحقيق العيش والبقاء".