18-أغسطس-2023
 (الصورة: Getty)

في شارع ميصونيي بقلب العاصمة الجزائرية، تعج الأزقة الضيقة بالمارة والمحلات التجارية الممتدة على طول الساحة التي تؤدي إلى البوابة الأمامية الكبرى لمستشفى مصطفى باشا الجامعي، بمحلات متنوعة بين بيع الملابس والأثاث والأفرشة والأواني المنزلية، فضلًا  عن وجود باعة متجولين تعرص طاولاتهم ما لذّ وطاب للعين قبل الجيب.

اقتناء الأشياء الجديدة والتبضع فقط إشباعًا للحالة النفسية حالة يشتكي منها كثيرون

مثيرة ولافتة وتخطف الأنظار، هكذا هي الأحياء الشعبية في الجزائر، وشوارعها الضيقة، حيث  يُعرض على  أرصفتها مختلف المنتجات المحلية والأجنبية خاصة منها الصينية والتركية والمصرية والتونسية، فيما يتلهف البعض في شراء ما استجدّ وخاصة شغف النساء بالتغيير المستمر، سواءً في المواسم كشهر رمضان والأعياد.

التغيير والتجديد والتخلص من المقتنيات القديمة بحسب الكثيرات يدخل البهجة على البيوت،ويعتبرنه ملاذًا للسعادة والفرحة وتجديد الحالة النفسية  حتى وإن كان شبيهه متوفرٌ لديهن في البيوت.

انشغال مادي

اقتناء الأشياء الجديدة والتبضع فقط إشباعًا للحالة النفسية، حالة يشتكي منها كثيرون، وهو ما يعيشه كريم (27 سنة)، إذ يعترف بأنه أحيانًا يشتري ملابس ويكدّسها في خزانته، وينساها تمامًا خصوصًا مع تغيير الموضة وهوسه الشديد بالشراء، مشيراً لـ" الترا جزائر" أنه ذات مرة اقتنى الشيء نفسه دون أن يتذكر أنه اشتراه سابقًا، والسبب حسب رأيه، أنه يكدس ولا يستعمل كل شيء تحت عنوان " اتباع الموضة".

في المقابل، يبدي البعض امتعاضهم من هذه الحالة، لكنهم لم يتمكنوا من التخلّص منها لارتباطها بالنزعة الاستهلاكية والمنفعة من وراء ذلك، بحسب أستاذ علم اجتماع الأسري فارس وضاحي، بالمكانة الاجتماعية ومواكبة التطور، المتصلة بإغراق السوق بالسلع وكيفية العرض والإعلانات الجذابة والمغرية فضلًا عن تخفيضات الأسعار.

وأضاف في تصريح لـ" الترا جزائر" بأن الاستهلاك يضم الشراء أولًا كسلوك يومي يتأثر بمجموعة من العوامل الاجتماعية كوجهة نظر الآخرين حيال قيمة الأشياء وأنواعها وعلامتها التجارية، لكن في المقابل هناك من تتزايد لديه الرغبة في الشراء للتباهي وإرضاء رغبة عابرة وليس لوظيفة الانتفاع.

وفي خضم تسارع الحديث لإنتاج أنواع جديدة من الأثاث والأغراض والأجهزة بمختلف أنواعها، أكد الأستاذ وضاحي على أن هناك فلسفة جديدة بدأت تتسرب شيئا فشيئا إلى بناء عقلية بعض الأسر الجزائرية، لاقتناعهم بضرورة العيش بأكثر سلاسة، وأكثر أريحية والتخلص من الضغوط المادية والنفسية التي يسببها الهوس الذي سيطر على الفرد وأفرغ الجيوب واستنزف أموالهم بحجة "نزوة الشراء".

هوس الشراء

من جهتهم، يعتبر كثيرون أن الشراء مرتبط بالمستوى المادي والمعروضات التي تجود بها المحلات، غير أنه في آن واحد مسبب للكآبة والاكتناز المرضي، ويتجاوز أيضًا الحاجيات اليومية أو أولويات المعيشة، فتحبّذ السيدة جميلة بن زادي (54 سنة) أن" تحتفظ بالشيء القليل وأن تفرّغ بيتها إلا بما تحتاج له".

"العيش بالحد الأدنى"، هكذا وصفت السيدة بن زادي طريقة عيشها في البيت، إذ لا تتعرّض للإغراء مهما كان، ومهما فاق المعروض حدّ الخيال، فهي التي تقطن بحي " درقانة" شرق العاصمة الجزائرية والمعروف بانتشار المحلات والمطاعم وبيع الأثاث الذي غالبًا ما يجذب أعين النّساء، لكنّها في المقابل لديها تجربة ماضية صعبة جعلتها تعيش بالقليل الذي يحمل فائدة على أن تملأ البيت بالأغراض دون أن تستعمل أكثر من نصفها.

تتابع محدثة "الترا جزائر" بأنها كانت مثل غيرها من النساء، تشتري ما تراه مناسبًا للبيت، غير أنها لم تتوقع للحظة أنّها ستفقد الكثير وربما كل شيء في لحظة مثلما حدث في حادثة الزلزال الذي ضرب وسط الجزائر قبل عقدين من الزمن ( أيار/ماي 2003)، وقتها فقدت أكثر من ستة من أفراد عائلتها، وتزعزعت أركان البيت التي كانت تقطن فيه، فما فائدة التكديس إذًا؟

تقول اليوم امتلك القليل من الأثاث الذي يساعدني على العيش والتنظيف وتشعر بسعة المكان الذي تقطن فيه، فضلًا عن اكتفائها بالقليل من الملابس التي تعمل لها جرد سنوي في عطلة الصيف حتى يمكنها اقتناء الجديد.

وحول الجرد الذي تجريه كل عام، تعتقد السيدة بن زادي بأنها عملية بسيطة جدًا، لديها ثلاث حلول للفرز والتنظيف ثم الاقتناء، الأول هو أنها ترمي كل ما لا يمكن إصلاحه، والثاني تقوم بمنح الصالح من الأشياء مما لا تحتاجه لمن يستحقه سواءً تتبرع بها لجمعيات خيرية أو معارف أو غيرها، أما الثالث فهو أن تعيد إصلاح ما يمكنها استعماله، لتتحول إلى مرحلة شراء ما تريده من جديد، مشيرة لـ" الترا جزائر" بأن العملية كلها تتمحور حول ما أسمته بفلسفة ما لم تستعمله لمدة تفوق العام، سواءً كان عبارة عن كتب أو ملابس أو أثاث أو أغراض أو أشياء، يعني أنك لن تستعمله، والأفضل الاستغناء عنه.

الشعور بالأمان

البساطة، أصبحت نمط عيش كثيرين، خصوصًا للمتزوجين حديثًا، حيث تظهر رغبتهم في خلق أجواء أكثر رحابة ويسرًا، وامتلاك الحد الأدنى من الأثاث والأغراض.

إلى هنا، تعتقد كريمة سلاّمي وهي متزوجة منذ ثلاث سنوات، أن الأثاث في البيت كثيرًا ما يلعب على وتر الأعصاب، خصوصًا للأم العاملة، فهي لديها توأم حاليًا وتشتغل كموظفة حكومية، وتوفير سبل العيش الكريم والأسهل أهمّ ما في الأمر.

وشدّدت محدثة "الترا جزائر"، على أن المشكلة التي تواجهها النساء المتزوجات حديثًا هو تكديس أغراض للفترة الأولى لما بعد الزواج، ما يشكل لها ضغط أكثر من استخدامها خاصّة ما تعلق منه من الملابس التي تقتنيها مع ما يسمى بـ"جهاز العروس"، لتجد نفسها مع مرور الأيام والأشهر لا تستعملها بتاتًا وتظلّ في الخزانة مكدسة بل تلبسها الأخيرة أكثر من صاحبتها، حد قولها.   

أسلوب الحياة يختلف من جيل لآخر، إذ يُسارع كثيرون نحو امتلاك الأشياء المادية، وبعد عدم استعمالها وانتهاء صلاحيتها، تظل مخبأة في زاوية من زوايا البيت، لذا وجد كثيرون المخرج، نحو ما وصفته السيدة سلاّمي بـ “السيطرة على طريقة الشراء والعيش"، موضحة لـ" الترا جزائر" أنها تستخدم أقل الأغراض والأدوات، وتجنب إشراف الأموال على الملابس والأجهزة الكهربائية والأواني وهو ما جعل حياتها أفضل وأكثر سهولة أيضًا.

إذا كان امتلاك الأشياء يُشعِر البعض بالسعادة المؤقّتة لما توفّره اقتناء الحاجيات من فرحة وبهجة وتغيير أجواء والقضاء على القلق أثناء التسوق، مثلما تؤكده الأخصائية النفسانية كريمة بن رجم من جامعة قسنطينة، إلا أن العيش بالحد الأدنى لا يعني عدم الشراء، ولكنه نوع من أنواع علاج التوتر المادي الذي تعكسه عدم القدرة على الشراء وانشغال البعض بما هو غير ضروري.

يعتبر كثيرون أن الشراء مرتبط بالمستوى المادي والمعروضات التي تجود بها المحلات

هذا ما يفسر أيضًا، توجّه كثيرين نحو الحصول على الحد الأدنى من الأثاث والأغراض لمواجهة ارتفاع الأسعار، إذ وجد البعض بأنه على قدر ما تشتري على قدر ما تصرف وليس ما تستهلك، هي ليست قاعدة متعددة الأركان موجودة في العديد من البيوت الجزائرية.