"لماذا لا نتراجع للوراء، وننظر إلى أنفسنا كصحافيين في المرآة، فلربما نرى أننا أخطأنا أحيانًا الطريق، وأصبنا حينًا الهدف.. الصحافة وفقط أما الباقي فهي متشابهات".
هناك معطيات كثيرة تنبئ بأن الصحافة الجزائرية باتت مخيّرة بين مستويين باتا أكثر ظهورًا في الساحة اليوم وهما: المعلومة السريعة، والمعلومة الرسمية
بالعودة إلى هذه العبارة لصاحبها الكاتب الصحفي الراحل عبد العزيز بوباكير في لقاء على هامش ندوة إعلامية بالعاصمة الجزائرية سنة 2018، يطرح متابعون اليوم، أسئلة تصب في هذا الموضوع: هل نحن أمام صحافة الكم أو الأعداد أو بالأحرى الأرقام المتتالية لعدد لا متناهي من الصحف الورقية ثم الإلكترونية؟ هل سنلجأ إلى توقّع إنهاء حقبة الصحافة؟ أو كما يطلق عليها بعض الأكاديميين بـ "زمن نهاية الصحافة؟".
ممارسة إعلامية؟
في الجزائر، وجب وضع الأصبع على جرح فتحته الصحافة الخاصّة في بدايات تسعينيات القرن الماضي، مع الانفتاح السياسي الذي شهدته البلاد بفعل تعديل دستور 1989، فازدهرت صحف على ظهر صحافة عمومية كانت وقتها تلعب الدور المنوط بها على قلتها، فعشرات الصحفيين أقبلوا على خوض مغامرة مشاريع صحفية تحت اسم "الصحافة المستقلة" أو ما يمكن تحديده بـ "الصحافة الخاصة"، لكنها خاضت معارك ضارية بداية عشرية دامية، كلفت البلاد آلاف الضحايا من بينهم إعلاميين، لترفع الصحافة وقتها شعار"الكلمة الحرة.."، لكنها سيقت إلى ما لم يكن في الحسبان، إذ شهدت الساحة عناوين كثيرة من واجهات الصحف في مكان التعددية الإعلامية المرجوة.
يعترف أستاذ الإعلام نور الدين شتوح من جامعة الجزائر، بأن البلاد عاشت عصرًا ذهبيًا للقلم الحرّ، وهو ما برز في بدايات التعددية أي الفترة ما بين 1991 إلى غاية 1997، وهي الفترة التي شهدت مخاضًا يعتبره محدث "الترا جزائر" نابعًا من تفكيك القيود التي كانت مفروضة في عهد الحزب الواحد والصحافة الأحادية النظرة والتحليل، مشيرًا إلى أن ما نشهده اليوم ما هو إلا ارتدادات لعدم انتهاز فرصة الاشتغال أكثر على النوع أكثر من الكم.
لا أحد يمكنه الجزم بأن الصحافة الجزائرية كانت ستلقى هذه الانتكاسة، هكذا رد الأستاذ شتوح على السؤال التالي: "كيف تنظر للإعلام الجزائري اليوم بعد 33 سنة تقريبًا؟" .. هي انتكاسة بمعنى الكلمة. ما تعيشه الصحافة الجزائرية اليوم هو وليد عدم قدرتها على الصمود في ظلّ تحديات كبرى شهدتها الساحة السياسية فترة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة خلال مرحلة متعددة الفترات، تزامنت مع بعبع الإرهاب، ثم معالجة الأزمة الأمنية وبدء مسيرة البناء والتشييد ثم مرحلة البحبوحة وشراء السلم الاجتماعي إلى غاية بدء الحراك الشعبي في مقابل تقلبات متطلبات المنظومة الإعلامية برمتها من موارد بشرية ومالية.
الثورة التكنولوجية
من مستجدات الساحة الإعلامية، الثورة التكنولوجية التي ألقت بظلالها على الصحافة، وباتت الصحافة تعرف ما يسمى بـ "صحافة الفاست نيوز"، أو الاستعجال وكأن الذي لا ينشر الخبر أو المعلومة حتى وإن كان دون مصدر ستفوته الرحلة. في هذه المستجدات التي فرضتها الثورة التكنولوجية وصحافة الإنترنيت، شهدت الساحة الإعلامية تقلبات تشريعية بين مد وجزر، أمام تدفّق المعلومات السريعة وتوجه الجمهور إلى الاطلاع على أية معلومة من خلال السوشيل ميديا، أو ما يسمى بـصحافة الأصبع"أي تقليب المعلومة بأصبع اليد والبحث عن خبر مقتضب لا يهم إن كان صحيحًا أو كان مزيفًا".
لكن السؤال الأكثر إلحاحًا اليوم هو: هل ما زال الإعلام في الجزائر يؤدي دوره؟ وهل البيئة التشريعية تسمح بذلك؟
هناك معطيات كثيرة تنبئ بأن الصحافة الجزائرية باتت مخيّرة بين مستويين باتا أكثر ظهورًا في الساحة اليوم وهما: المعلومة السريعة، والمعلومة الرسمية، فالأولى تعني الاستجابة لمقتضيات التكنولوجية التي لم تعد تفرق بين المعلومة والأحداث فالأهم هنا حسب الكاتب الصحفي كريم ساحلي هو ملاحقة الجمهور، والثانية تعني متابعة النشاطات الرسمية للمؤسّسات الوزارية والقطاعات الحيوية في أي منطقة كانت، كم يقول ساحلي لـ "الترا جزائر"، دون البحث حول ما يسمى في خلفيات الخبر أو محاولة طرح تساؤلات حول أيّة معلومة تذكرها بيانات تلك القطاعات، على حدّ قوله.
في المقابل من ذلك، فإن التشريعات الناظمة للجهاز الإعلامي في الجزائر، أصبحت "تخنق" الصحافة أكثر مما كنا نتصوّر، إذ لفت إلى أن ما عاشته الجزائر خلال العشريات السابقة ومنذ بدء الحراك الشعبي كان يسير نحو انفتاح أكثر للمنابر الإعلامية، غير أن ما "لمسناه اليوم هو تعدد المنابر أو المؤسّسات الإعلامية ولكن خفوت كبير للعمل الإعلامي الحر أو الإعلام الذي يراقب المؤسّسات الحكومية ويقدم مختلف وجهات النظر".
ثلاثة عقود وقيود
مع الإفراج عن القانون الجديد للإعلام في الجزائر، تسعى الحكومة على لسان وزير الاتصال محمد بوسليماني إلى "خلق توزان بين الحرية والمسؤولية"، وتنظيم النشاط الصحفي الذي عرف "فوضى كبرى خلال السنوات الأخيرة".
وعلاوة على "منح الصحافي الحماية القانونية لأعماله وحفظ حقه في عدم نشر أو بث أي خبر أو مقال أو عمل، أدخلت عليه تعديلات جوهرية دون موافقته"، ينتظر إنشاء سلطة ضبط الصحافة المكتوبة والإلكترونية التي تعد "هيئة عمومية تتمتع بالاستقلال المالي وتضطلع بمهام ضبط نشاط الصحافة المكتوبة والإلكترونية".
كما يقترح القانون استحداث مجلس أعلى للآداب وأخلاقيات المهنة تؤول إليه مسؤولية الضبط والتدخل وإعداد ميثاق يقتدى به للارتقاء إلى ممارسة إعلامية مسؤولة، مع استبعاد للمال الفاسد، بحسب التصريحات الرسمية.
رغم هذه الخطوات التشريعية، إلا أن الواقع والممارسة، يطرح عدة أسئلة تتعلق بتغييب "الحق في الحصول على المعلومة" في علاقة بالوصول إلى مصادر المعلومات في الأجهزة العمومية، وابتعاد الصحفيين عن المعالجة الإعلامية للقضايا الكبرى التي تعرفها الجزائر والاكتفاء فقط بمعلومات أغلبها "جافة" أو "لا تملك نفسًا طويلًا في التأسيس للصحافة المتأنية التي تطرح الأسئلة الكبرى".
يضاف إلى كل هذا، مسألة سجن الصحافيين تحت ذرائع نشر معلومات من شأنها الإضرار بالمصلحة الوطنية، وتلقي أموال من جهات أجنبية، دون الإشارة إلى توصيفهم بالصحافيين، ورغم أن القانون الجزائري يقرّ بعدم وجود عقوبة سالبة للحرية للصحافين في إطار مهني، نجد أن معظم القضايا التي سجن فيها صحافيون بسبب مقالات أو تقارير إعلامية أسقطت فيها عنهم صفة الصحافي.
لا يمكن أن نستعيد الصورة الكاملة للإعلام الجزائري دون أن نتحدث عن غلق المؤسسات والمتابعات القانونية ضد الصحافيين
لا يمكن أن نستعيد الصورة الكاملة للإعلام الجزائري، دون أن نتحدث عن تكميم الأفواه، وغلق المؤسسات والمتابعات القانونية ضد الصحافيين، ما يجعلنا اليوم نرفع شعارًا جديدًا مفاده: "الحرية مقابل الصمت"، رغم أن مختلف الوعود التي قدمتها السلطة تتمحور حول تحرير الإعلام والتنفيس عليه من خلال محاولة تقديم فضاء كبير لمختلف المؤسّسات الإعلامية الجديدة في ظل اتساع الساحة أمام الإعلام الإلكتروني الذي قتل روح المعلومة وقدم وجبات حارة وغالبًا ما نلتهمها قبل نضوجها حتى، فهل هي الصحافة التي أردنا قبل ثلاثين سنة وأكثر؟