20-ديسمبر-2023
 (الصورة: Getty)

ألكسيس دو تكوفيل (الصورة: Getty)

يَقفُ العالم العربي والإسلامي اليوم أمام ازدواجية معايير المجتمع الغربي إعلاميًا وسياسيًا، تجاه المجازر المروّعة الذي يَرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في حق أهالي غزة والفلسطينيين جميعًا؛ فمنذ بداية العدوان على غزة، استمر الغرب في تبني الروية الإسرائيلية المزيّفة والدفاع عنها، والتغاضي عن مئات المجازر التي يرتكبها الاحتلال بالصوت والصورة.

ركز توكفيل على إلغاء وجود الجزائريين ليصبح الفرد الجزائري منكسرًا نفسيًا كارهًا لذاته مستسلمًا لأفكار النخب الفرنسية

الرأي العام الدولي وقف على حقيقة تباين مواقف المجتمع الدولي مع حالات مشابهة، ومنها الحرب على أوكرانيا، حيث سارع الغرب لإدانة روسيا واتهم موسكو بارتكاب المجازر، ورفع شعارات حقوق الانسان واحترام القانون الدولي وفَرض عقوبات ثقيلة على موسكو، بينما يغضون الطرف ما يجري من اعتداءات وحشية وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة.

شرعنة الاستعمار

قصد فهم خلفية تلك الازدواجية، يرى مفكرون أنه من الناحية التاريخية، ومنذ عقود طويلة، حاولت المنظومة الغربية إيجاد مبّررات وحجج من أجل السيطرة على الشعوب وارتكاب جرائم حرب تحت مسميّات ناعمة، في حقّ شعوب ومجتمعات تتباين مواقفها مع المجتمع الغربي سواءً فكريًا أو دينيًا أو عرقيًا وإثنيًا.

 ومنذ أن تفوق المجتمع الغربي صناعيًا وعسكريًا على المجتمع الشرقي عمومًا، حاول السيطرة على مصادره الطبيعية والاستحواذ على أرضيه، والهيمنة على مصادر قوته على غرار الممرات البحرية والتجارية ومصادرة الثروات بالعنف والقوّة.وكانت مخططات التسلط والاستيلاء والاحتلال لا تقتصر على الدوافع العسكرية، وإنما استجابة إلى أيديولوجية فكرية وعقائدية قائمة على الاستملاك بالقوّة والعنف، وفق تَنظير وتأطير فكري وفلسفي، يُشرعن الاستيطان وممارسة الإبادة والتوحّش في حقّ الغير.

الفلسفة في خدمة الاستعمار

في السياق ذاته، لم يكن توظيف الآلة العسكرية إلا وفق الدعاية السياسية والفكرية التي وظفها مثقفون ومفكرون غربيون، اشتغلوا على "شرعنة" الفعل الاستعماري والاستيطاني، وفي سبيل ذلك يستباح استئصال الشعوب والقبائل في الضفة الأخرى.

 في مقابل ذلك، يرفع هؤلاء المثقفون شعارات تدعي التزامها بحقوق الانسان، والدفاع عن المواطنة، ورفع شعار "الحرية والمساواة والأخوة"، ولعل أبرز هؤلاء المفكرين هو" ألكيسس دو توكفيل"، فمن هو دو توكفيل؟ وما هي علاقاته بشرعنة الاستعمار؟ وما هي دوافعه وتبريراته الداعية إلى السيطرة العسكرية على دول وشعوب أفريقيا وغيرها.

منظر الثورة الفرنسية

ولد ألكسيس دو توكفيل في 29 تموز/جويلية سنة 1805، بعدة فترة قصيرة من قيام الثورة الفرنسية. ينحدر من عائلة أرستقراطية من منطقة نورماندي الفرنسية، تلقى تعليمًا دينيًا محافظًا، ودرس الفلسفة في سن مبكرة، الأمر الذي أحدث تغييرًا عميقًا في نمط تفكيره ونظرته إلى الحياة، كما درس القانون في باريس، وفي سنة 1838 عين عضوًا في الأكاديمية الفرنسية.

ورغم انتمائه إلى أسرة أرستقراطية، رافع من أجل النظام الديمقراطي والمساواة الاجتماعية، وفي سبيل ذلك تزوّج بامرأة إنجليزية من مستوى اجتماعي متوسط.

بعد الثورة الفرنسية التي عرفت تقلبات وانقلابات، كان ألكسيس دو توكفيل من النشطاء في الحياة السياسية والفكرية الفرنسية، إذ تم تعينه قاضٍ لفترة في جهاز القضاء، وتبوّأ منصب نائب في المجلس التأسيسي، تم وزيرًا للخارجية سنة 1849، وحاول بصفته نائبًا ومفكرًا وسياسيًا الدفاع عن الحريات والدعوة إلى تأسيس النظام الديمقراطي وقال إن الكرامة الإنسانية هي قضيته جوهرية.

بين سنتي 1831 و1832 سافر إلى أميركا من أجل النظر وتأليف مذكرة حول نظام إصلاح السجون هناك، وألف كتابًا عن "نظام العقوبات في الولايات المتحدة وتطبيقه في فرنسا"، وكان هذا قبل تأليفه لكتاب "الديمقراطية في أميركا".

توكفيل منظرًا للكولونيالية

زار توكفيل الجزائر مرتين سنتي 1841 و1846، وبناء على ذاك أشرف في سنة 1847 على ترأس لجنة برلمانية حول استعمار فرنسا للجزائر، إذ أبدى دعمه لاستعمار الجزائر، وأكد في التقرير بضرورة السيطرة على إيالة البلاد المستعمرة.

دافع توكفيل على فكرة احتلال الجزائر والتوسّع والتمدد الاستعماري، من أجل تمركز فرنسا كقوة اقتصادية تنافس الأمم الصاعدة على غرار بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية. وادعى المفكر الفرنسي أنّ السّيطرة لا تعني شيئًا وسوف تظلّ ناقصة ما لم تُدعّم بالاستيطان، بل وتفنن توكفيل في شرح خطواته وكيفية تحقيقه خاصّة في "عمل عن الجزائر 1841" و "تقرير عن الجزائر 1847"، وإن تطلب ذلك استخدام أقسى الوسائل، تمامًا كما يتعامل الاحتلال الإسرائيلي اليوم مع الفلسطينيين، ولجوئه إلى عمليات إرهابية وجرائم وحشية ضد المدنيين.

رأى توكفيل أن التوسع الجغرافي لفرنسا من شأنه نقل القيم الحضارة الغربية "للشعوب البربرية المتوحشة"، ويهدف إلى الاستيلاء على الممرات التجارية والبحرية وامتلاك الأراضي الفلاحية وعودة فرنسا كمحور إقليمي ذو تأثير على الساحة الدولية.

كان التناقض لدى ألكسيس دو توكفيل، أي بين مسيرته كمفكر إنساني وبين دفاعه عن النزعة الاستعمارية، محلّ تساؤل لدى كثيرين من المهتمين بحياته، حيث يعتقد مفكرون اشتغلوا على بنية الفكر الاستعماري، أن البعد الإنسان والحقوقي الذي أظهره توكفيل لا يخفي النزعة الاستعمارية التي آمن بها.

ومصدر تلك النزعة ماهو إلا نتيجة للأيديولوجية المادية والفردانية، حيث كان توكفيل مشبعًا بالقيم الغربية القائمة على تفوق العنصر البيض، وغَلبَة القيم الغربية الحضارية على باقي القيم المشرقية أو الإسلامية، فضلًا عن إيمانه بالتراتبية العرقية التي تفرض ضمنيًا ضرورة استئصال واغتيال الآخر والمختلف، أي بعبارة أدق تصفية السكان الأصليين "غير المتحضرين والمعادين للحضارة" كما وصف توكفيل الهنود الحمر السكان الأصليين في أميركا.

يُعد توكفيل واحد من منظري ومؤسسي "التيار الاستعماري" في فرنسا، وهي المدرسة الفكرية والسياسية لا ما تزال قائمة إلى غاية اليوم، وقد أشربت منها دوائر وتيارات يمنية متطرفة، وهي أطراف تَتَشارك وتَتقاسم القيم العنصرية المتوحشة مع الكيان الصهيوني.

لقد ضحى تنكر توكفيل لمبادئه الإنسانية وقناعته الليبرالية التحررية، وجعلها حكرًا على الأروبيين، ورأى أن شن حرب ظالمة على الجزائريين، تصنف حسبه في خانة الأعمال الإرهابية التي تستوجب استعمال العنف والتدمير حتى يترك الأهالي أماكنهم للأوروبيين الذي يجلبون لهم الحضارة.

لقد ضحى تنكر توكفيل لمبادئه الإنسانية وقناعته الليبرالية التحررية

ركز ألكسيس دو توكفيل، على حتلال الجزائر وإلغاء وجود الجزائريين، وزرع الروح الانهزامية في نفوسهم والقضاء على حركات المقاومة، ليصبح الفرد الجزائري منكسرًا كارهًا لذاته، مستسلمًا لأفكار النخب الفرنسية التي تضفي شرعية على هذا الاستعمار، غير أن هذا القهر الذي عاشه الجزائريون، أفرز لديهم مناعة قوية ضد سياسة التغييب والتهجير، وزاد تمسكهم بهويتهم وثقافتهم، واستمرت المقاومات الشعبية لأكثر من قرن ونيف، إلى أن انفجرت ثورة التحرير وخاض الجزائريون حربًا لم تهدأ حتى نيل استقلالهم.