24-ديسمبر-2023
 (الصورة: Getty) دار الصحافة الطاهر جووت بالعاصمة

(الصورة: Getty) دار الصحافة الطاهر جووت بالعاصمة

تميّزت السنوات الأولى من العهدة الرئاسية للرئيس عبد المجيد تبون بتثبيت "تقليد" لقاءاته الدورية مع وسائل الإعلام المحلية، وهو تقليدٌ بات واضحَ المعالم من خلال المحاور الكبرى التي يتم تناولها في كل لقاء، فهل هذا الانفتاح على الصحافة والإعلام السمعي البصري في الجزائر، جزءٌ من تعهدات الرئيس حيت تسلّمه لمقاليد الحكم في 2019؟ أم هو خطوة نحو القيام بعملية إصلاح للقطاع وجعل حرّية التعبير أحد أضلاع معادلة الأولويات؟

اللافت أن عام 2023 تكلّل بإصلاحات مسّت القوانين النّاظمة للإعلام عمومًا والصحافة الإلكترونية خاصّة

اللافت أن عام 2023 تكلّل بإصلاحات مسّت القوانين النّاظمة للإعلام عمومًا والصحافة الإلكترونية خاصّة، ومراجعة مختلف القوانين التي كان يسير عليها القطاع منذ التعددية السياسية، حيث صدر قانون الإعلام في شهر آب/أوت الماضي، فضلًا عن إصدار القانونين المنظمين للسمعي البصري، والصحافة المكتوبة والإلكترونية، في انتظار الإفراج عن القوانين المنظمة لمجال الإشهار، وهو مجال مازال يصنع الجدل حينًا ويخفُت الحديث عنه أحيانًا.

يتضح جليًا أن الحديث عن انفتاح الرئيس تبون على الصحافة، تجسّد في اللقاءات الدورية التي يجريها مع مختلف وسائل الإعلام والصحافة المحلية، إذ يعتبرها أستاذ الإعلام عيد الكريم وزّان بأنها" سنّة حميدة" أو "خطوة نحو فتح المجال أمام حرية التعبير"، وهنا وجب التذكير بأنه بمقارنة بسيطة، فإن الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، لم يكن يعط الأولوية للإعلام المحلي بتاتًا ما يفسّر إهمال السلطة العليا ما قبل الحراك الشعبي لجانب مهم من تقديم المعلومة كعنصر مهم من الاتصال السياسي، وإحاطتها بالعناية في مواجهة التضليل والتشويه والفبركة والمعلومات المغلوطة.

هذا الإهمال الواضح أو التقزيم الذي سيّج علاقة السلطة بالإعلام في الجزائر خلال تلك الفترة، يبدو أنه تبدّد منذ اعتلاء تبون للحكم، على الأقل شكليًا بحسب مهنيين، يضيف الأستاذ وزان في تصريحه لـ "الترا جزائر"، باعتبارها لقاءات دورية أو تقديم حوصلة إجابات لتساؤلات الشارع الجزائر ومتابعة الشّأن العام، فضلًا عن تبديد مختلف الانشغالات وتقديم الإجابات على تطلعات المواطن، بالإضافة إلى تنبيه المسؤولين.

في مقابل ذلك، يرى متابعون بأن اللقاءات الدورية التي يُجريها الرئيس تبون مع الصحافة، تسيء إلى المشهد العام لحرية الصحافة في الجزائر أكثر مما تخدمه، حيث أن السلطة تحاول الترويج للانفتاح على حرية الرأي بإخراج سيء وصوة هزيلة انعكست سلبًا على صورة السلطة، حيث يظهر مجموعة من الصحافيين أغلبهم مدراء جرائد وقنوات إعلامية (بعضها محسوب على المعارضة) في لقائهم بالرئيس، يحملون أوراق أسئلة جاهزة، ويقرأون ديباجة شكر وثناء على إنجازات الرئيس قبل البدء في طرح أسئلة "مجاملة"، ولا يكون هذا اللقاء من خلال بث مباشر أبدًا، إذ أنه يسجّل قبل عدّة أيام ويخضع للتنقيح والقص قبل عرضه على الجمهور، ويتبين ذلك من خلال الإعلان عن موعد بثه قبل عدة ساعات، والفواصل التي تظهر في خطاب الرئيس.

هذا المشهد، يبدو كافيًا لشرح كثير من الأشياء حول حرية الصحافة في الجزائر، وبينما كانت طموحات قطاع واسع من الصحافيين، تتطلع لانفتاح أكبر على حرية التعبير والرأي، خاصّة بعد فترة الحراك الشعبي، شهدت فترة الرئيس تبون اعتقالات وسجن لكثير من الصحافيين بسبب مواضيع قاموا بنشرها على وسائل إعلامية معتمدة، مثلما حدث مع الصحافي بلقاسم حوّام.

أرضية القوانين

طموحات قطاع واسع من الصحافيين في الجزائر خلال الأربع سنوات من حكم الرئيس تبون لم تتحقق بعد، خاصة وأن وزارة الاتصال تداول على تسييرها ثلاثة وزراء، وهو يندرج ضمن التغييرات التي شهدتها الفرق الوزارية التي تعاقبت على قصر الحكومة أولًا، وضمن المنحى الذي أراده الرئيس تبون من خلال التزاماته الانتخابية قبل أدائه لليمين الدستورية، وأثناء خطابه بفوزه بالرئاسيات إذ قال وقتذاك: "أعد بحرية تعبير لا سقف لها".

السؤال الذي يطرح هنا بإلحاح: هل هذا هو سقف الحرّيات التي تتطلع له السلطة والإعلام؟ ونذهب من خلال هذا التساؤل إلى طرح سؤال لا يقلّ أهمية عن سابقه: أيّة سياسة إعلامية جزائرية تريدها السلطة؟ والعكس أيضًا صحيح: أيّة سياسة إعلامية يريدها الإعلاميون في الجزائر؟

خلال الأربع سنوات، كان قانون الإعلام هو الفيصل في وضع أرضية لممارسة إعلامية محكومة بقوانين، من شأنها تنظيم القطاع وتسييره بشكل متوازن بعد الفوضى الإعلامية التي شهدتها الساحة منذ ما يسمى بـ " ثورات الربيع العربي" إذ شهدت الجزائر نموًا لافًتا لعديد القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية دون قيود أو تنظيم تشريعي يمكنها بالقيام بواجب تقديم المعلومة وضمان حقوق الصحافيين. 

 أطر مهنية

يمكن العودة في هذا السّياق، إلى مختلف النقاشات التي أخذت حصة كبرى على مستوى الإعلام وفي البرلمان حول استحداث أطر قانونية لضبط الصحافة وتحسين وضعية الصحافيين المهنية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة بعد الأزمات التي عصفت بعديد المؤسسات الإعلامية تزامنا مع أزمة وباء كورونا وملف الديون العالقة لدى بعض الصحف وصعوبة دفع أجور المهنيين، واللجوء إلى غلق المؤسّسات المعنية بهذه المشكلات، وهي ظروف انعكست سلبًا على نوعية الممارسة الإعلامية وأثّرت على وضعية الصحفيين اجتماعيًا .

في نظر إعلاميين هناك مكاسبُ حصل عليها الإعلام ومن ورائها الإعلاميون؛ من خلال الإفراج عن القوانين التي تؤطر المواقع الإلكترونية بالدرجة الأولى، إذ وصل التوجّه العام إلى مبادرات شبانية لتأسيس العديد المواقع التي تُعنى بالأخبار والمعلومات، ما يعني أن هذه التشريعات القانونية الإعلامية، مهمة جدًا لإصلاح الإعلام وحماية الصحافيين.

هذا المشهد الفارغ من القوانين طيلة السنوات الأخيرة، سمح ببروز عدّة مؤسّسات الإعلامية بلا واجهة أو بالأحرى "دون حماية"، إذ تعترف أستاذة الإعلام والباحثة في سلك الدكتوراه ياسمين ندور، أن الفراغ القانوني قبل صدور قانون الإعلام الجديد كثيرًا ما يؤثر على مهنة الإعلام، مشددة في تصريح لـ "الترا جزائر"، أن القوانين المفرج عنها مؤخرًا من شأنها أن تعيد المجال إلى سكّته الصحيحة والبدء في التأسيس لمرحلة ما بعد الإعلام التقليدي بفعل الثورة التكنولوجية.

في هذا الإطار، تعتقد الأستاذة ندور بأن الفترة الماضية ميزتها تكريس السلطة حرّية الصحافة في دستور 2020، لكن كان الجميع ينتظر القوانين التي تنظم القطاع الذي شهد تمييعًا واسعًا خلال السنوات الأخيرة، وأشارت إلى أن القوانين سمحت للمؤسسات الإعلامية الحديثة من الاستفادة من الإشهار العمومي واستفادتها أيضًا من عملية تخفيض الضرائب

الممارسة والحريات

بالرغم من تخوف الكثيرين من التضييق على الصحافة وتحجيم سقف الحرّيات، واستمرار المتابعات القضائية ضد الصحافيين بسبب مواقفهم وكتاباتهم، إلاّ أنّ البعض يرى أن "الحرية الإعلامية تؤخذ ولا تعطى"، وأن الخطوة الأهم هي نضال الإعلاميين، وهو ما يفتقده الكادر الإعلامي في الجزائر، الذي يتميز بخُفوت صوت النّضال على حساب المكتسبات الملموسة.

مناقشة حرّية الإعلام في الجزائر ليست وليد اليوم ولا نتيجة لفترة زمنية من عهدة رئاسية ولا مرحلة مفصلية ارتفع صوتها قبل وبعد الحراك الشعبي، ولكنها وليدة تراكمات لأكثر من جيل كامل أي لفترة تزيد عن 33 سنة، فالممارسة الإعلامية ظلت منذ التعددية الحزبية والنقابية والإعلامية نتاج دستور 1989، تخطو خطوات نحو الأمام، ثم تتراجع إلى الخلف، وذلك من ناحية الفعل المهني والوضعية الاجتماعية للصحافيين.

ستفتح مناقشات وضع الإعلام في الحاضر الباب أمام تقليب ملف شائك ظل حبيس الأدراج يخرج للضوء كلما سنحت الفرصة، إذ تدفع وضعية الحريات الإعلامية في الجزائر مع انقضاء عامٌ آخر من عهدة الرئيس الحالي إلى الجدل، إذ يرى رئيس نقابة ناشري الإعلام ومدير شبكة "أخبار الوطن" رياض هويلي بأنها مسألة ممارسة فعلية من قبل المهنيين أنفسهم، لافتًا في تصريح لـ" الترا جزائر"، أن العملية الإعلامية محكومة بعدّة عوامل أساسها المهنيون بالدرجة الأولى، أما القوانين فهي شكلٌ من أشكال النضال الذي نضجت ثماره، ويتزامن استخدامها مع مختلف أوجه ممارسة الحرية إن على مستوى الفعل السياسي الحزبي والنقابي أيضًا.

يرى متابعون بأن اللقاءات الدورية التي يُجريها الرئيس تبون مع الصحابة، تسيء إلى المشهد العام لحرية الصحافة في الجزائر أكثر مما تخدمه

ودعا هويلي الجسم الصحافي إلى مواصلة النضال من أجل افتكاك مساحات حرة للممارسة الإعلامية، والحصول على مكاسب جديدة في القطاع، متسائلًا في الأخير: هل حافظ الإعلاميون على مكاسب حّرية الإعلام التي ناضل لأجلها عشرات الصحافيون منذ أكثر من ثلاثة عقود؟