09-يونيو-2024
(الصورة: باجيناد ميديا)

(الصورة: باجيناد ميديا)

ما تزال القضايا الاجتماعية التي تُعرض في بعض القنوات التلفزيونية الجزائرية (الخاصة) تُثير جدلًا كبيرًا في جميع الأوساط الشعبية وخاصة في الفضاء الافتراضي، كما تشكّل محلّ التساؤل تارة ومحط اللغط تارة أخرى، بالنظر إلى أنها لفتت النّظر نحو العلاقات المعقّدة في الأسر؛ وناقشت عدة طابوهات كانت إلى وقت قريب متداولة بصوت خافت حتى بين أفرد الأسرة الواحدة. 

باحثة اجتماعية لـ "الترا جزائر": جلب محامي ورجل دين في برنامج تلفزيوني لا يمكنه أن يكون وسيلة للتوازن في الطرح لأي قضية اجتماعية لأنه يتم باستمالة العواطف على حساب التحري والموضعية التي يستحقها البرنامج،

تراكمات التلفزيونات الخاصة

شهدت معظم القنوات التلفزيونية موجة "الطرح الإعلامي للقضايا الاجتماعية" بكلّ "حرية ودون حدود مرسومة، في المقابل من ذلك، طرحت خلال تلك الفترة الكثير من الأسئلة حامت أغلبها حول "ميثاق شرف المهنة" و"دفتر شروط ممارستها".

بالنسبة للمرفق الإعلامي، نبّهت وزارة الاتصال إلى "الانحراف في التعاطي مع القضايا الاجتماعية، وآخرها قرار "إيقاف بث برامج جمع التبرعات إلى غاية صدور دفتر الشروط الذي يضبط ممارسة النشاط السمعي البصري بدقة"، وأشار الوزير محمد لعقاب خلال عدة لقاءات بالمسؤولين على مستوى المؤسسات التلفزيونية الخاصة، إلى أنّ "قضايا المشاكل الاجتماعية هي مسائل مشحونة بالعواطف تتطلب مهنية واحترافية وحيادية عالية".

جاء هذا القرار، عقب بث برنامج تلفزيوني "خليها على ربي" في قناة النهار حول "اتهامات من ولي مريضة ضد إمام مسجد بالاستيلاء على أموال جمعت لصالح الطفلة المريضة، وتبين لاحقًا أن هذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة، بعد ظهور الإمام على مواقع التواصل الاجتماعي واعتذار صحافية القناة منه.

تراكمات بدايات السمعي البصري في الجزائر، أدت إلى هذا النوع من التعاطي مع القضايا الاجتماعية، إذ بعد الإطلاق الأولي لعدد من القنوات تابعة لمؤسسات صحفية، برزت هذه البرامج المحسوبة على قسم " المجتمع" دون رادع قانوني.

ففي سنة 2013، بثّت قناة " النهار" الجزائرية تحقيقًا عن الأحياء الجامعية مسلطة الضوء على الجانب المظلم من وراء جدرانها، غير أن التحقيق الذي لازال لحدّ اللحظة يثير الخوف لدى الأسرة الجزائرية، لم يجد وقتها رادعًا قانونيًا، خصوصًا أمام بروز القنوات التلفزيونية الخاصة ومن دون قوانين أو دفتر شروط.

آنذاك أثارت تلك القضية التي الرأي العام، وأخذت حيزًا مهمًا في صفحات الجرائد، وفي حديث الجزائريين في الشارع، بل ولم تكن القضية الوحيدة التي تناولتها القنوات من حيث المضمون الإعلامي، ومن حيث الطريقة والأسلوب، إلى يومنا هذا، وكأن العملية باتت سهلة المنال، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمسألة عائلية، وتدخل فيها الصراعات بين " المظلوم والظالم".

كشف المستور

حرّكت تلك المضامين وكثير سواها، العديد من الباحثين في مجال الإعلام، ودفعت البعض منهم إلى إثارة المسألة من الناحية الإعلامية في بعدها السوسيولوجي، في علاقته بالمسؤولية الاجتماعية.

وهنا كشفت أستاذة الإعلام بجامعة وهران الباحثة نصيرة بن صافي، أن السؤال الأهم منذ هذا الانفتاح الإعلامي يتعلق بـ "محل المسؤولية تجاه الأفراد وقيم المجتمع الجزائري واحترام الخصوصية أيضا، موازاة مع أخلاقيات المهنة الصحيفة".

وأشارت في حديث لـ "الترا جزائر" أن العملية ليست سهلة بالنسبة لأب مرفق إعلامي في تناوله لأي مضمون يتعلق بالأسرة والعائلة والعلاقات بين الأفراد، خاصّة فيما تعلق بمعايير انتقاء مواضيع تحدث وراء جدران غرف البيوت الجزائرية، فهل يحق لنا اليوم بتعريتها؟

وأَضافت، هناك حدّ فاصل بين طرح مشكلة اجتماعية وتناولها من زواياها بآليات معروفة تراعي مختلف جوانب المبادئ التي نتفق عليها في مجتمعنا وبين التشهير دون مراعاة لتداعياته على الفرد أولًا، والأسرة والعائلة والجيران والشارع والحي والمدينة".

وفي غضون ذلك تقول الأستاذة بأن " جلب محامي ورجل دين في برنامج تلفزيوني لا يمكنه أن يكون وسيلة للتوازن في الطرح لأي قضية اجتماعية، والسبب -حسب رأيها- أن الطرح يتم باستمالة العواطف على حساب التحري والموضعية التي يستحقها البرنامج، خصوصًا في القضايا التي لا يمكن الكشف فيها عن جميع زوايا الموضوع ويتعذر فيها التطرق فيها إلى مختلف جوانب القضية.

وأفادت أيضًا بأن تناول القضايا الحساسة يحتم على معد البرنامج القيام بسبر آراء ومعايشة أيضًا لبعض المسائل، موضحة أن: هناك قضايا لا يمكن تفكيك شفرتها إلا بعد تحقيق ميداني، ومعالجتها في غياب بعض تفاصيلها قد يجعلها مبتورة من وجه من أوجه الحقيقة، وقد لا تخدم المعنيين بالقضية حتى وإن كانوا هم عناصر من الحضور في الأستوديو أو يتم الاتصال بهم لتقديم رأيهم حول القضية المطروحة.

السؤال الذي ظلّ يتردد في وسائل التواصل الاجتماعي هو: هل يحترم الصحفيون القيم المجتمعية أثناء معالجتهم لمواضيع اجتماعية؟

تعتبر المواضيع الاجتماعية، من القضايا المتشعبة، ولا يمكن إصلاحها بمجرّد عرضها في الشاشة، وخلق الجدل حولها، وصناعة "الترند" أو" النجومية" من خلال المقولة السائدة الآن: "الانتقال من مشاهير الشّعب إلى شعب المشاهير"، وكم من قضية عرضت بات أبطالها يحتلون مواقع التواصل الاجتماعي، وتدور حولهم النقاشات.   

كما أنّ انتقاء الألفاظ والعبارات المستخدمة في معالجة المسائل الاجتماعية، هي الأخرى مهمة جدًا، لأنّ عملية الطرح تحتاج إلى خبرة مهنية في مثل هذه المسائل، إذ تعج المحاكم بالقضايا التي تشهدها الأسر والعائلات، غير أنها لم تصل إلى حدّ عرضها في شاشات التلفزيون.

هناك فارق بين عرض المسألة وفضح القضايا، كما يقول الباحث في علم اجتماع الاتصال من جامعة الجزائر، عبد الله بوفناية لـ "الترا جزائر" موضحًا بأن تلك الموجة التي غزت التلفزيونات ابتذلت "الظاهرة الاجتماعية"، وعالجتها بشيء من "السطحية"، بأن تصنع لمدة 52 دقيقة من عمر حصة أو برنامج أو تحقيق، حولها هالة جماهيرية وتحصد فيها المتابعات والجمهور، في المقابل فإن "العملية عميقة معقدة وشائكة" ويمكنها أن تُحدث شرخًا عميقًا في الأسرة الواحدة.

ولفت إلى أن ما تم زرعه خلال أكثر من 11 سنة من بروز تلك الفضائيات، دون "رادع" نحصده اليوم بلا مبالاة بأن يظهر الوالدان في الشاشة وتقام معهما المحاكمة أمام الملايين أو بالأحرى "المشنقة من قِبل الأبناء"، وهي ليست من وظيفة التلفزيون، بل هي من "وظيفة القضاء، إن كانت هناك قضية أصلا مطروحة في العدالة، وليس شكوى من جانب واحد، ثم نمنح الطرف الثاني في تلك المعادلة يتحدث لاحقًا، أي بعد صناعة " الجمهور المتابع بالآلاف".

"مدّ العين"

التكرار وشحن الصور العاطفية، يدفع إلى " مدّ العين" نحو الاطلاع على مثل هذه البرامج والحصص باتت اليوم تثير في مضامينها عدة قضايا اجتماعية مرتبطة بالدرجة الأولى بالأسرة والعلاقات الزوجية المتشابكة، نحو قضايا الميراث والطلاق، وغيرها من المسائل التي يعتقد البعض أنها كانت قبل هذا الانفتاح على مستوى السمعي البصرية منذ أكثر من 12 سنة، عبارة من المسكوت عنه.

ولكن، في المقابل من ذلك صارت بالنّسبة للبعض "فضيحة" تستقطب المشاهد تارة وتثير غضبه تارة أخرى.. والنتيجة يحللها المختصون، وتتحمله جزء كبير منه وزارة الاتصال.

من وجهة نظر اجتماعية عميقة، نبّه، مختصون إلى ما يسمى بـ "نظرية النافذة المكسورة"، إذ تفيد هذه النظرية بأنّ إهمال معالجة مشكلة في بيئة اجتماعية ما، مهما كان حجمها سيؤثّر على مواقف الناس، وتصرفاتهم تجاه تلك البيئة بشكلٍ سلبي مما يؤدّي إلى مشاكل أكثر وأكبر.

ولإسقاط هذا المفهوم على المعالجة الإعلامية للقضايا الاجتماعية عبر الشاشات، فإن التعرّض لـ" الأعراض، ومحاكمة الأسرة في العلن، سيؤدي حتمًا إلى ابتذال العلاقات خاصة بين الوالدين والأبناء، ويسمح للكثيرين بالتجني على تلك الرابطة التي يراها المحامي محمد نواري بـ" المقدسة" فحتى لدى رجل القانون، تؤخذ الأمور في مثل هذه القضايا بالكثير من العناية والانتباه، خصوصًا إن كانت المسألة تتعلق بالأعراف والعادات، لأنها في النهاية تحاكِم مجتمع بأكمله.

وواصل في تصريح لـ "الترا جزائر" التغاضي عن الغش سيسمح بانتشاره، بينما الردع القانوني بإمكانه أن يضيق حلقة التعامل مع مثل هذه المسائل، مشيرًا إلى أن الضبط الاجتماعي والقانوني للمحتويات الإعلامية هو أهم خطوة يمكنها أن ترفع من مستوى الوعي الجمعي، وتجنيب " الفوضى الأسرية".

الباحث عبد الله بوفناية لـ "الترا جزائر": ما تم زرعه خلال أكثر من 11 سنة من بروز تلك الفضائيات دون "رادع" نحصده اليوم بلا مبالاة

في انتظار الضّبط  

بالعودة إلى قرار السلطات الجزائرية بتوقيف بثّ كل البرامج الاجتماعية الموجهة لمساعدة الحالات الاجتماعية والمرضى، يظلّ السؤال مطروحًا، حول مسألة "الانتهاكات القانونية لأخلاقيات المهنة"، في انتظار الإفراج عن دفتر شروط ضبط ممارسة المهنة، يمكن أن يزيل اللّبس عن التعاطي مع قضايا حساسة باتت تشغل الرأي العام.