21-مارس-2024
طلبة فلسطينيون في غزة (الصورة: الترا جزائر)

كيف حالك مع رمضان؟ يبدو هذا السؤال الروتيني عبثيًا خاليًا من المعنى، حينما يكون موجها لزهاء 85 طالبًا فلسطينيًا، يدرسون في جامعتي الحاج لخضر ومصطفى بن بولعيد بولاية باتنة، ويقطنون في الإقامة الجامعية، عمار عاشوري، المخصصة للطلبة الدوليين القادمين من 26 بلدًا.

ينتمي 35 طالبًا فلسطينيًا للضفة الغربية وشتات الأردن، فيما ينحدر 50 طالبًا من قطاع غزة. بعضهم فقد العشرات من ذويهم، آخرون لا يعرفون شيئًا عن مصير أقاربهم

ينتمي 35 طالبًا فلسطينيًا للضفة الغربية وشتات الأردن، فيما ينحدر 50 طالبًا من قطاع غزة. بعضهم فقد العشرات من ذويهم، آخرون لا يعرفون شيئًا عن مصير أقاربهم، وآخرهم الطالب محمود المبحوح، ابن شقيق العميد فايق المبحوح مسؤول الشرطة الفلسطينية بقطاع غزة الذي اغتيل قبل ثلاثة أيام فقط.

لذا قد يكون مخجلًا أن يُطرح هذا السؤال إزاء المآسي التي يتعرض لها الفلسطينيون منذ أشهر، أو الحديث عن إفطار جماعي في وقت القتل والتجويع الجماعيين، فالأمر يصبح هنا أشبه بالرقص في المقبرة. رمضان هذا العام بالنسبة للذين تحدثت معهم من الفلسطينيين هو رمضان أبيض على وزن سنة دراسية البيضاء، بلا "بنّة" ولا "طِعمة"، لسان حالهم جميعًا يصيح في ألم صامت: "كيف نستلذ طعامًا وأطباقًا، وأهلنا لا يجدون وجبة وحيدة يسكتون بها كلاب الجوع.

طلبة من غزة في الجزائر

غربة في الغربة

فاجأني الطالب عثمان أبو ركبة، ممثل الطلبة الفلسطينيين والطلبة الأجانب بباتنة، بما أعرف عنه من حب للحياة وممارسة الرياضة بنظرات باسمة لكنها حزينة. التقيته منذ بداية مسلسل الإبادة لغزة عقب طوفان الأقصى ولم يكن هكذا.

أمس كان مختلفًا فمزاجه كان كئيبًا جدًا بلون البدلة السوداء التي ارتداها، يلخص لـ "الترا جزائر" مشاعر الفلسطينيين قائلًا: "بعد خمس سنوات دراسة في الجزائر، هذا أسوأ رمضان يمر عليّ هنا، وربما طيلة حياتي كلها. أعتدنا في السنوات الماضية على أن نلتئم في مجموعات داخل غرف الإقامة، تتكفل كل مجموعة مشكلة من عشرة أشخاص بإعداد طبق من سفرة الإفطار المتنوع، فنتفنن في أعداد أطباق الكبسة والقدرة الفلسطينية، والمقلوبة والمسخن وورق العنب أو الدوالي.

في العادة كنا ننظم مائدة فلسطينية ندعو لها طلاب الدول المقيمين في الإقامة، لكن في هذا العام كل شيء اختلف، هم من يقومون بزيارتنا لا من أجل مشاركتنا الطعام، بل لمشاركتنا العزاء والحداد، ذلك أنه لم تعد لنا شهية للطعام أو الشراب، ودعني أخبرك أنّي لأول مرة أشعر بالغربة في الجزائر، بعد خمس سنوات من إقامتي الطيبة فيها".

طلبة من غزة في الجزائر

فقد محدث "الترا جزائر"، عثمان أبو ركبة، 60 فردًا من أقاربه خلال الأشهر الماضية، جراء القصف والتدمير الذي طال غزة، لكن الحرب اتخذت، منذ فترة، شكلًا آخر تعدى التقتيل إلى مرحلة التجويع، فيعقب إلى "الترا جزائر" قائلًا: "منذ أسبوع فقط رزقت شقيقتي بمولود، ونظرًا لانهيار المنظومة الصحية، جرّاء قصف المشافي وقتل الأطباء أجرت أختي عملية قيصرية بلا تخدير، أما رضيعها فوُلد جائعًا، وحرم من الغذاء الطبي الممنوح للولدان جراء الحصار وانعدام تلك المواد".

يصمت ويغوص في نظرة تائهة، ويواصل: "ثم صدقني فعائلتي تفطر منذ بدء شهر رمضان على وجبة واحدة باردة تتكرر كل يوم هي السلطة، كيف يطيب لك الحساء الدافئ عندما تعلم ذلك؟ في واقع الحال لا شهية لنا في الأكل والشرب. كل ما أفعله بعد آذان المغرب، هو أن أكتفي بحبات تمر ولبن أنا وشقيقي، نكسر صيامنا ثم لا نكاد نلقم شيئًا بعدها، سوى ما تيسر للبقاء على قيد الحياة"

الشهيد المبحوح

شقيقه علاء أبو ركبة، الدارس في الماستر جيوتقني بجامعة باتنة، يوافق أخاه قائلًا إلى "الترا جزائر: "الحق أن نفسياتنا تعذبت كثيرًا طيلة هذه الأشهر، من أخبار ومشاهد القتل والتدمير والتجويع، ليس لنا قدرة وشهية على استمراء الطعام، فأول ما يقفز إلى أذهاننا صور عائلاتنا الجائعة هناك. في واقع الحال صار الغزاويون في مصف واحد، أبدلت هذه الحرب حياتهم تبديلًا، فمن كان غنيًا صار فقيرًا، ومن كان فقيرًا صار أفقر ".

بين علاء أبو ركبة وعبد المجيد، جلس محمود المبحوح، وهو طالب بكلية الطب بباتنة دون أن يتفوه بكلمة، حاولت أن استدرجه في الكلام، غير أن خجله منعه، فأخبرني عبد المجيد صائحًا: " إنه طالب متفوق وهو حصل على معدل 19 وهو أول الفلسطينيين"، صمت وأضاف "فقد عمه فائق المبحوح عميد الشرطة بوزارة الداخلية بقطاع غزة في اغتيال أعقب اشتباكًا مع قوات الاحتلال الإسرائيلية فجر الإثنين 18 آذار/مارس 2024".

رفض ابن شقيق العميد فايق المبحوح الحديث رغم إلحاح زملائه عليه، فقدرت أن ذلك راجع لخجله الشديد، لا إلى صدمة مباغتة عقب اغتيال عمه، الذي أفلح، ساعات، قبل اغتياله من طرف الجيش الإسرائيلي من إدخال 15 شاحنة مساعدات غذائية للأهالي المرابطين بشمال غزة.

يؤشر استهداف المبحوح إلى تصعيد آخر، نحو فصل جديد من التجويع المتقدم للفلسطينيين، ذلك أن مصالح الشرطة ولجان العشائر، هما الهيئتان المدنيتان اللتان تتوليان تنظيم وتسيير وايصال المعونات الغذائية للفلسطينيين، وضمان الحد الأدنى سيرورة المعيشة. وبالإيغال في عمليات قصف لجان العشائر المكلفة بتوزيع المساعدات الغذائية، تكون إسرائيل بصدد إحداث فوضى شاملة، تعقب التجويع وتنتهي بالتهجير، مثلما يستنتج طالب فلسطيني معلقًا على الموضوع.

طلبة من غزة في الجزائر

دموع في الغرفة

قبل أسبوع يضيف أحد المتدخلين، استشهد شقيق الطالب لؤي أبو طيبة، لترتفع الجردة الثقيلة المتعلقة بالضحايا من أقارب الطلبة الدارسين بولاية باتنة، إلى 210 شهيدًا، يتوزع جلهم حسب الإحصائيات المتقاربة، على عائلة مجد غول بـ 150 فردًا، ثم عائلة عثمان وعلاء أبو ركبة بـ 60 شهيدًا.

استمرار لعمليات القتل والتدمير والتجويع يجعل الطلبة الفلسطينيين غير مرتاحين البتة، ومضغوطين تحت مطحنة التأثيرات النفسية، لدرجة أنهم صاروا يهربون من متابعة الأخبار اليومية، يشرح عثمان إلى "الترا جزائر" ذلك: " بصراحة شخصيًا صرت أحجم عن متابعة الأخبار، وأظن أن هذا مشترك بين بقية الرفاق، كي لا أتضرر نفسيًا، لأن الوضع متعب وسيء للغاية ليس فقط لأهلنا وأقاربنا وشعبنا هناك في غزّة، بل لأنه يؤلمنا نفسيًا، فهو يشعرنا بعجزنا عن فعل أي شيء لغربتنا عن بلدنا، وما باليد حيلة، والعين بصيرة واليد قصيرة"

يصمت ويضيف: "سبق وأن قلنا لك في مرة سابقة، وخلال باكورة عملية طوفان الأقصى، بأننا نفضل أن نكون هناك في غزة لنستشهد مع أهلنا، بدل أن نكون جالسين هنا، واضعين أيدينا على خدودنا، لنتحسر على شعبنا الذي يباد عبر الشاشات بزفرات، أو نتفرج عليهم وهم يموتون جوعًا رغم أنف الهيئات الدولية. تتحول الغربة في هذه الحالة إلى جحيم معنوي ونفسي لا يطاق. هذا أمر قاس ومدمر وأفظع من الموت".

كمن يتذكر أمرا يخبرني: " نسيت أن أروي لك أني دخلت غرفة طالب فلسطيني فألفيته يبكي والسبب أن عائلته لم تأكل شيئًا مدة أسبوع كامل، لم أجد أية كلمة مناسبة أواسيه بها، بل الأحرى لأواسي بها نفسي والغزيّين جميعًا".

اتصالات شحيحة

أحاول الفرار بهم بعيدًا عن عنف اللحظة فأسألهم إن كانوا يتصلون بعائلاتهم فتتراوح الردود متباينة، بيد أن الثابت فيها يجعل من المقيمين في الشمال أكثر حظًا من المتواجدين في جنوب القطاع، يشرح عثمان ذلك: " اتصلت منذ شهر بوالدي وطبعًا تمكّنت من التحدث معه لأنه في الشمال. أما باقي الأهل المتواجدين بالجنوب فمن الصعب التواصل معهم لأن العمليات العسكرية لا تزال مستمرة، والأوضاع ليست واضحة".  

يتدخل عبد المجيد أخمان، وهو طالب حقوق بجامعة باتنة من غزة هامسًا متمتمًا: "كان يفترض أن ندعوك لمائدة فلسطينية مثل الأعوام الفارطة عندما كان رمضان عنوانًا للبهجة والفرحة والتشارك، لكن هذا العام وجراء ما تعرف من أحداث صارت كل أيامنا رمادية قاتمة، لكن المرارة لا تتجلّى من حيث الشعور العاصف سوى في شهر رمضان".

قبل أسبوع استشهد شقيق الطالب لؤي أبو طيبة، لترتفع الجردة الثقيلة المتعلقة بالضحايا من أقارب الطلبة الدارسين بولاية باتنة

أسأله فيوضح شارحًا: "عندما نصوم ونمتنع عن الطعام طيلة اليوم نتذكر جوع أهالينا، لكن جوع أهالينا مستمر منذ ستة شهور، أما جوعنا فظرفي، لأننا نفطر كل مغرب. بالله عليك كيف لمن يذوق طعم الجوع على مدار يوم أن يتحمل جوع إخوانه وأقاربه وأفراد عائلاته ومواطنيه المستمر لأيام متتالية وأسابيع وشهور؟  في واقع الحال نحن نعاني لساعات ما يعانيه هؤلاء منذ شهور، وهناك من لقي قدره، وهناك من سيموت ربما، ورغم ذلك الحمد لله على كل شيء، على ما منح ويمنح وعلى ما منع ويمنع".