25-يناير-2024

مختصون نفسانيون يؤكّدون على أهمية العلاج بالمحادثة (فايز نور الدين/أ.ف.ب)

قد تعيش غربة الحياة في بلدك ومنطقتك وحيّك وبين أفراد أسرتك وأحبابك، وقد تدركك فترات قد يحتاج فيها الإنسان إلى "فضفضة" مع شخص ما، وربما أيضًا للتفريغ  عن مشاكل أرهقته وباتت جبلًا على ظهره، لذلك يعتبر كثيرون أن الكلام أحد وصفات التخفيف من بعض الأمراض، ويُعرف بـ" العلاج بالكلام".

يقترح مختصون "العلاج بالمجموعات"وخصوصًا فيما تعلّق بالمشاكل العائلية والزوجية ومشاكل تتعلق بالأطفال والتربية

هي حقيقة علمية مفادها أن الكلام له مفعول سحري يتخذه البعض أحد طرق الشفاء من عدة أوجاع توهن الجسد، إذ هو في كثير من الأوقات يعدّ الحلّ الوحيد لتخفيف وطأة عدة أمراض نفسية وعضوية في الآن نفسه.

وعليه، تناول دكاترة وباحثون في علم النفس ومختصّون في العلاج النفسي السلوكي، مسألة فائدة المعالجة بالكلام لدى المرضى، وهي من العلاجات التي لا يتمّ التطرق إليها أو تداولها كثيرًا في "وصفات العلاج"، غير أن الطب النفسي يعتمد كثيرًا على مثل هذه الطريقة لتخفيف وطأة الآلام التي تنهك الجسد والنفس وتؤثر على عقلية المريض، بل وقد تختفي الأعراض بمجرّد جلسات "كلام".

أحد الحلول

إلى هنا، تشير الدكتورة سميرة بن عبد الرحمان بأن "العلاج بالكلام مفيد جدًا لتخفيف بعض أمراض كثيرة، منها ما تظهر أعراضها مع مرور الوقت، لكنها تخفي من وراءها أوجاع قد تتحول مع الزمن إلى أمراض عضوية، مفسرة ذلك في حديث لـ"الترا جزائر"، بأنها آلام في أعماق الجسد دون وجود لعلاج جذري، وغالبًا ما ترتبط بآلام لها أسباب مخفية قد تعود لصدمة أو حالة اكتئاب لم يتم الاعتناء بمداواتها، وهي أمراض نفسية بالدرجة الأولى.

وشددت محدثة "الترا جزائر"، على أن في العديد من المصحات النفسية تعتمد على الأدوية لتخفيف الاكتئاب وحالات الحزن والكآبة، على سبيل المثال لا الحصر، إلا أن دواء المرض قد يتمثل أيضًا في "الفضفضة".

لماذا قد يفيدنا الكلام؟ في سياق الحديث عن هذا الموضوع، أكد عدد من المختصين على أهمية "الحديث إلى شخص غريب، يعتبر الأسهل من تجاذب الحديث مع أشخاص يعرفوننا ونعرفهم، وحتى أقرب الناس لنا"، وهو ما يُثير فكرة أنه في الأوقات الصعبة التي يمرّ بها الأشخاص أو في فترة "كَدَر" أو "حُزن شديد" والتي تتحوّل جميعها إلى عزلة الشّخص عن العالم الخارجي  يصل إليها في آخر المطاف.

فهم يحتاجون، حسب هؤلاء المختصّين، إلى أذُن تستمِع لهم وتُصغي إليهم، من أجل إيجاد مخرج لمشكلاتهم اليومية وتخفيف صعوباتها، إضافة إلى العثور على حلول من زوايا مختلفة عمّا يعتقده المعنيون، وخاصّة منهم من تحوّلت تلك المشاكل إلى أزمات أفرزت أمراضًا نفسية مستعصية، مع مرور الوقت.

بعيدًا عن إطلاق الأحكام

تعتقد الدكتورة بن عبد الرحمان، بأن هناك عدة مسائل لا يمكن للشّخص أن يتعامل معها لوحده دون مساعدة من مختص نفسي، إذ يختصر عليه الكثير من العقبات ويقدم له العديد من النصائح، والتوجيهات التي تساعده في تغيير حالته وربما أفكاره التي تؤرقه.

اللافت أن الكثير من المصحات والمستشفيات تفتقر لمثل هذا العلاج، في مقابل اشتغال الكثيرين من المختصين في مجال علم النفس متعدّد التخصصات بهذه الطريقة، فالعلاج بالكلام مازال غير متاح، والسبب أن كل شخص يحتاج إلى فترة زمنية للكلام قد تتجاوز أربع ساعات، وهذا أمر غير ممكن أحيانًا، وغير مجدي بالنسبة للمختصين في حدّ ذاتهم، إلا إذا كان العلاج باستشارة فردية تستغرق وقتًا يحدّده المختص مع المريض.

في سياق العلاج النفسي، فإن فائدة الحديث والعلاج بالكلام مع أشخاص ليس لنا معرفة بهم في السابق، سيغني المريض عن الأحكام، إذ يجد المريض مجالًا للحديث وجهًا لوجه مع الطبيب والحديث بكل صراحة والبكاء والصراخ أيضًا، وهو المجال الذي يسمح للمريض بالتطرّق إلى آراءه وتفريغ أفكاره دون وضع حدود لها مع شخص يقدّره ويحترم كيانه وقراراته ويشاركه في تحليلها وإيجاد مخارج لها.

تغير الأوضاع

بالإضافة إلى الاعتماد على الأدوية التي يعتمدها الطبيب كوصفة للمريض، يؤكد المختص النفسي عبد العالي بوطبة، على أهمية العلاج بالكلام خاصة في حال الإصابة بالاكتئاب وهي حالات كثيرًا ما تصيب الأشخاص بعد صدمة أو تغيّر حالتهم الاجتماعية جراء وفاة أحد الزوجين أو حالات الانفصال، أو تغير مستواهم الوظيفي، كالانتقال من موقع إلى موقع أو الخروج إلى مرحلة التقاعد مثلًا.

وعلاوة على ما سبق، يضيف المختص بوطبة لـ"الترا جزائر"، أن هناك حالات الإدمان بمختلف أنواعه، وحالات القلق المزمن والرهاب الاجتماعي، وحالات نفسية صعبة كالفصام وحالات الحزن المزمنة، الناجمة عن فقدان عزيز أو التعرض لحادث مؤلم وصدمات قوية، وحتى عند الاضطرابات في عملية الأكل والهضم أيضًا.

لكن المتخص يعتقد أن الحلّ النهائي ليس بالكلام، إذ يقول بوطبة إن المريض كثيرًا ما يشعر بنوع من الارتياح جراء " الفضفضة" وربما لم يسبق له أن تكلم عن ما يُتعبه ويُرهقه، وهذا ما يحاول المعالج الوصول إليه، بالتطرق إلى تفكيك " شيفرة جذور مشاكله"، بالاستماع أيضًا لآراء تختلف عن نظرته، ما يمكنه من الخروج من "الدائرة الحمراء"، موضحًا بأن الكلام لا يُخلِّص الأشخاص من مشكلتهم، لكن مفعوله يرمي إلى تخليصهم من الأثقال النفسية التي يحملونها أينما ذهبوا وارتحلوا، ويباشرون في تقبّل وضعهم الحالي وحياتهم بسهولة أكثر وبيسر يقيهم من أمراض مستعصية؛ لأن الألم النفسي والضغط والضّجر يسبب أمراضا عضوية لا نهاية لها.

من جهتهت، تقول المختصة النفسية وردة قبلي لـ"الترا جزائر" إن العلاج بالكلام دواء أفضل من الأدوية الأخرى، فمن منظورها الشخصي وبعد تجريبه، فهو "لا يُخلّصهم من مشاكلِهم، ولكنَّهم يتقبَّلونها بسهولةٍ أكثر ويشعرون بسعادة أكبر وبحالة أفضل".

وأشارت إلى أن الكثيرين يستصغرون حجم المعاناة التي يتحملها المرضى، ويستصغرون مدى أهمية هذا النوع من العلاج، رغم أنه جزء مهمّ من أجزاء حياتنا اليومية، ولا يمكن الاستغناء عن " التفريغ اليومي بطريقة لا يتعرض فيها الشّخص للأحكام".

المشاركة

وفي سياق حديثهم عن مختلف الأمراض النفسية التي غالبًا ما لا يعطي لها الجزائريون بالًا، يقترح مختصون "العلاج بالمجموعات"، وخصوصًا فيما تعلّق بالمشاكل العائلية والزوجية ومشاكل تتعلق بالأطفال والتربية، فهذا النوع من العلاج، يمكن الآخر من خروجه من الدائرة الضيقة التي أحاطت به لفترة طويلة، ويعتقد فيها أنه الوحيد الذي يعاني، ليكتشف مع مرور الزمن أن الجميع لديه مشكلة ما، يغرق في أزمة معينة.

بالتجارب، أسفرت هذه المجموعات عن حلول ناجعة، ما يسميها مختصون بـ"مجموعة الحلّ الجماعي"، كما يصفها البعض بـ"مكتبة الإنسان" حيث يجد فيها الفرد كل ما يبتغيه من علاقات اجتماعية وتحديات يعيشها الأفراد على مستوى العائلة والعمل والمرض.

ويقول الدكتور سعيد هوام لـ"الترا جزائر" بأنها "فضاء يخصص للحديث، ويجد الشخص المعني من يرافقه في الحديث والاستماع إلى قصته أو مشكلته، والتخفيف عنه بطرح أسئلة والإجابة، وتبادل الحديث مع من لديه تجربة في هذا المجال أو آخر، أو سبق له أن مرّ بتلك المشكلة".

ويضيف الدكتور هوام لـ"الترا جزائر" بأن "مكتبة الإنسان" أو "فضاء الإنسان" أو "الحل بالمجموعات" يؤتي ثماره عندما يقتنع كل فرد بأنه ليس وحيدًا في هذا العالم، وأنه سيخرج من معضلته أو أزمته التي يرى في السابق أنه الوحيد الذي يعاني منها، ويكتشف ربما " أنه يعيش أفضل ولا ينتبه للنعم التي يغرق فيها، ويبحث عما هو غير موجود ويراه لدى الآخر، وبذلك يخرج من المعضلة أو الأزمة التي تواجهه بفضل هذا الفضاء.

المختصة النفسية وردة قبلي لـ"الترا جزائر": العلاج بالكلام دواء أفضل من الأدوية الأخرى فهو يساعد على تقبل المشاكل بسهولةٍ ويشعر المعَالجون بسعادة أكبر وبحالة أفضل

ومن المشاكل التي يواجهها الأشخاص، ويمكن عرضها عبر هذه المجموعات، المشاكل الزوجية ومشاكل في العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة بين الوالدين والأبناء، أو معاناة بسبب مشكلة العقم أو فترة ما بعد وعقب فترة الانفصال، أو صدمة قوية بعد فقدان عزيز أو اكتشاف الإصابة بمرض مستعصي.