06-أبريل-2024
(الصورة: فيسبوك) مركز فابريانو

(فيسبوك/الترا جزائر) مركز فابريانو

بات المركز الثقافي الإسلامي بمدينة فابريانو، الواقعة على بعد ساعتين عن عاصمة الكثلكة روما، يحظى بسمعة كبيرة ليس لدى الجاليات الإسلامية القادمة من قرابة ثلاثين بلدًا فحسب، ولكن لدى الوسطين الإعلامي والسياسي الإيطاليين، بدليل عشرات التغطيات الصحفية والتلفزيونية لنشاطات هذه المؤسّسة الخيرية، التي كانت عاملًا حاسمًا في مد جسور التعايش الإسلامي المسيحي، وللتأسيس لأرضية وفاق بين المسلمين المهاجرين والإيطاليين، والأجمل من ذلك أن إمامًا جزائريًا متطوعًا و متفتحا تجاه الآخرين، يدعى عبد القادر مكري، أصيل مدينة خميس مليانة العريقة، هو مهندس هذا التقارب المبني على فكرة الدين لله ووطن الدولشي فيتا للجميع.

يتقاطر على المسجد مهاجرون من 27 جنسية بحثًا عن ولائم الدفء العائلي في صقيع الغربة، إذ يتكفل بإعداد الإفطار الرمضاني لهم منذ سنوات

27 جنسية

تأسس مسجد المركز الثقافي الإسلامي لمدينة فابريانو، المنتصب بفيا كافالوتي، العام 2016، لا ليكون مسجدًا مقتصرًا على الصلاة فحسب بل ليكتسب صفة المؤسسة ذات الخدمات الاجتماعية المتعددة، يقول عبد القادر مكري مدير المركز  في حديث إلى "الترا جزائر" إنّه "عندما أسسنا المركز لم ننشئه فقط ليكون مركز عبادة بل ليكون معلمًا إشعاعيًا بالمدينة التي أقطن بها منذ 34 سنة، فهناك مسجد على أيّة حال يقع في ضاحية المدينة، لكن ما أردناه هو مركز بمسمى الرحمة، ليجمع شمل المهاجرين الجزائريين والعرب و الآفارقة، و يوجههم التوجيه الحسن لحل مشكلاتهم الإدارية والقانونية،ولتقديم يد العون لهم ماديًا و معنويًا عند الضرورة".

يتقاطر على المسجد مهاجرون من 27 جنسية بحثًا عن ولائم الدفء العائلي في صقيع الغربة، إذ يتكفل بإعداد الإفطار الرمضاني لهم منذ سنوات. عن الطريقة يقول السيد مكري في حديث إلى "الترا جزائر": "قبل أن نصل لموائد الإفطار من الواجب أن أشرح طريقتنا في تسيير الأمور، قبل أعوام وقعت اتفاقًا بين المركز الثقافي وبنك الغذاء الأوروبي الذي يملك مقرًا له في إيطاليا".

مركز فابريانو

يتيح لنا الاتفاق أن نقوم بالاسترجاع اليومي للسلع غير المباعة من المساحات التجارية المتعاقدة معنا، ينتدب المركز متطوعين مسلمين وإيطاليين لجمعها من الرفوف، تعرف هذه البضائع بمسمى "سبريغ أليمونتاري". أيضًا، يقدم لنا البنك الأوروبي للغذاء كل أسبوع أو عشرة أيام، حمولتين من المواد الغذائية الأساسية من السكر والزيت والقهوة والطماطم والأجبان والألبان والعصائر والعجائن، بعدما يتلقاها كهبة من الشركات الكبرى التي تفضّل التبرّع بها قبل انتهاء مدة الصلاحية بأسبوعين أو ثلاثة. وعوض أن تكون عرضة للرمي، نقوم باسترجاعها للتصدق بها للعائلات الفقيرة في الآجال المتبقية للاستهلاك".

البوراك و البيرياني     

يقع المركز وسط البلدة وبين عمارات وبنايات سكنية، لذا فإن التواصل مع الإيطاليين سهل للغاية، كما يلتئم به عدد كبير من المهاجرين المسلمين للصلاة والإفطار، كما لو أنهم في بلدنهم الأصلية، يشرح مكري ذلك: "نتعامل في رمضان مع أربع أو خمس عائلات بينها عائلات جزائرية وبنغالية ومصرية تتكفل بطهو الطعام بعدما نزودها بالمواد الغذائية، لتقوم بتحضير حساء الشوربة أو الحريرة والسلطات والدجاج المحمر و البوراك الجزائريين، و الطعمية و الكفتة المصريتين، و البيرياني الباكستاني والهندي والبنغالي.  تجلب تلك الوجبات قبل الإفطار بقليل، ليستفيد منها، يوميًا، ما بين ستين إلى ثمانين شخصًا من جنسيات عربية وأفريقية وأسيوية.

كما يتكفل متطوّعون مهاجرون وإيطاليون بتسليم حصص من تلك الطرود ( قفف رمضان) إلى عائلات إيطالية معوزة عن طريق خدمة التوصيل وبناء على قوائم جردت فيها ألقابها سلفًا، مع تركيز خاص على الأشخاص المعزولين عن المجتمع والذين يعيشون بمفردهم، ويجدون حرجًا في الاصطفاف في طوابير أمام الجمعيات الخيرية المسيحية المسماة الكاريتاس".

مركز فابريانو

أثر الفراشة

يشيع في أثرنا التراثي قول مأثور هو: "ولا تحقرن من المعروف شيئًا ولو كان نقير تمرة"، وتبدو هذه الكلمة بليغة إلى حد أقصى، فهي أشبه بأثر الفراشة الذي لا يزول أو يُزال، فيخلف رغم حركته التي لا ترى أعظم الانقلابات الهائلة. فقبل سنوات قليلة ماضية، تشكلت لدى الإيطاليين والغربيين عمومًا نظرة سيئة عن الإسلام والمهاجرين والمسلمين، بخاصة في تلك الأعوام التي ازدحمت فيها شرائط الأخبار بأفعال داعش والقاعدة، وهكذا فقد أشرق هذا الإحسان اليسير الذي يتكفل به مركز الرحمة ليبدد تلك النظرة السوداوية السلبية، قليلة كانت الأخبار التي تبرز الوجه الإنساني السمح للمسلمين وهذا النموذج الخير للعيش المشترك كان حاسمًا في تغيير النظرة بشكل كسر أفق التوقع بشكل غير مسبوق، يقول المتحدث بشكل قطعي:" المسيحيون عمومًا يؤمنون وفقًا لمعتقدهم بالمسيح عيسى الفادي والمخلص لما يتميز به من رحمة تجاه الآخرين. يبدو لي أن مركز الرحمة جسد سلوكيًا تلك القيمة لا قولا بل فعلًا، فلا غرو أن يتعاطف معه الإيطاليون".

مركز فابريانو

الرحمة للجميع

تستفيد أربعون عائلة إيطالية من رحمة مركز الرحمة، وهذه النقطة بالذات ساهمت بشكلٍ لافت في جلب اهتمام فعاليات المجتمع الإيطالي بهذا المعروف الديني والإنساني، يفصل عبد القادر ذلك قائلًا: "الخدمات الخيرية التي يقدمها المركز للمهاجرين والإيطاليين لا تقتصر على شهر رمضان فحسب، والذي قد يأخذ زخما روحيًا أكبر من الأشهر الأخرى. معاملتنا مكفولة للجميع في سائر الأيام وتشمل مجالات عدة، بينها على وجه الخصوص توزيع زهاء 500 إلى 600 طرد يحتوي على غذاء الأطفال الرضع من سنة إلى خمس سنوات. ثمة جمعية إيطالية متخصّصة في إعانة عائلات هؤلاء الأطفال ونحن المؤسّسة الوحيدة في المنطقة التي تتولى عملية الإمداد الدوري لها بهذه المستلزمات الحيوية".

 إلى هنا يضيف متحمسًا: "قد تتفاجأ لو قلت لك أن إيطاليًا اتصل بي من روما قائلا لديّ 500 يورو أود التبرع بها، وما بين جمعيات الكاريتاس المسيحية ومسجد الرحمة، قرّرت أن أخصصها لكم. وفعلًا سافر ذلك الإيطالي من روما لفابريانو ليهب لنا هبته المالية. في رمضان هذا العام ثمة إيطاليون يتبرعون لنا بمواد غذائية كي نساهم بها في أعمالنا الخيرية التي تشمل المهاجرين والإيطاليين على حد سواءً".

مركز فابريانو

احتفاء إيطالي

لفتت هذا العمل الخيري نظر الصحافة الإيطالية التي تغطي هذه الأنشطة باستمرار، وتضمن لها روبورتاجات ومقالات تسفر أثرًا طيبًا، فقبل أيام فقط، وبتاريخ  الرابع من شهر أفريل الجاري، نشر الصحافي دانيال غاتوشي، على صفحة راديو غولد منشورا مفعمًا كتب فيه:" "خلال شهر رمضان قام مركز الرحمة الثقافي بتوجيه من السيد مكري قادر بتوزيع 800 وجبة على المسلمين وغير المسلمين الذين لم تتح لهم فرصة تناول وجبة ساخنة أو وجبة بقوليات خلال هذا الشهر الفضيل. سمح هذا لجميع هؤلاء الأشخاص قضاء لحظة لطيفة من المشاركة في شهر يأتي فيه الخير أولاً".

كما كتب الصحفي ماركو أنطونيني مقالًا مؤثرًا، سلط فيه أضواء الرحمة المشتركة عبر قيام المركز بـ:" توزيع 500 طرد تحتوي على التونة والمعكرونة والخضروات والفواكه والبقوليات على عائلات ضعيفة، كما اشتملت عبوات مفاجآت تحوي لعب للأطفال، في مضمار التضامن الرمضاني".

أفلحت نشاطات المركز الذي تعوزه 50 ألف يورو لاستكمال حيازة المقر بصفة نهائية عقب دفع مبلغ 80 ألف يورو، في الترويج لوجه مختلف تمامًا عن المهاجرين المسلمين، بدليل أنه بات يتلقى اتصالات كثيفة من مدراء القنوات طلبًا لإعداد تقارير، كما ينظم لقاءات حوارية في التقريب بين الثقافات والأديان بدلًا عن صدام الحضارات ونهاية التاريخ لصامويل هيتنغتون، كما نجح في تدوير زوايا التطرف من جهة، والعنصرية الموازية من جهة أخرى، يردف مكري مبتسمًا: "صار المجتمع الإيطالي ينظر باحترام للمسلمين والجزائريين، كما صرنا نستقبل جامعيين لإدارة طاولات حوار، آخرها كان متعلقًا بنظرة الإسلام للمرأة و كيفية مواجهة العنف المسلط على النساء الذي استفحل مؤخرًا في المجتمع الإيطالي. تخصّصنا في تقديم دروس في اللغة الإيطالية للمهاجرين، ولسمعة المركز صار الأخير يستقبل طلبة جامعيين مختصين في الدراسات الشرقية بغرض تعلم اللغة العربية. لقد كوفئنا بالثقة بعدما قدمنا نذر المصداقية".

رهبان وجنرالات

إلى ذلك يضيف مكري: "شهر نوفمبر الماضي عقدنا جلسة حوارية في مجلس شيوخ سانتا ماريا، جمعت مسلمين مهاجرين برعاية مركز الرحمة بسياسيين وقضاة والجنرال جوزيبي مورابيتو، وصحفيين وعضو مجلس الشيوخ وآباء كنسيين، وكان موضوع طاولة الحوار هو السلام والأمل في التعامل مع جميع الأديان على قدم المساواة تحقيقا لعالم أفضل".

بخروجه من دائرة العبادة الخاصّة إلى رحاب المعاملة الإنسانية الشاملة، صنع المركز الذي يقوده هذا الجزائري الذي تخرج إطارًا من المدرسة الجزائرية وتشرب من ثقافتها الدينية المعتدلة والأصيلة المتفتحة على الآخر، تفردا لائقًا، بأن أصبح جزء من النسق الاجتماعي والثقافي الإيطالي، فهو يشارك في فعاليات وطنية مثل حضور المناسبات الجزائرية المتعلقة بعيدي الثورة والاستقلال الجزائريين في روما، كما شارك ضمن وفد الجالية الذي خصه الرئيس عبد المجيد تبون بلقاء بمناسبة زيارته التاريخية لإيطاليا، شهر ماي 2022.

أما على صعيد الفعاليات الدولية فيوجز المتحدث: "شارك مركزنا في "مسيرة السلام" كما في كل عام، التي ينظمها العمل الأبرشي والمنظم دانييلي دي بيليس، إلى جانب جمعيات مع مديري الحدث مكري شانيز وإسراء عبد اللاوي، تحدثنا خلال جميع مراحل المسيرة عن الحروب والصراعات في العالم بما في ذلك الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا، وكان شعار الفعالية: "نعم للحوار".

مركز فابريانو

جسر في المتوسط

يتذكر عبد القادر مسيرة الألف ميل التي بدأت بخطوة صغيرة انتهت إلى منجزات تاريخية كبرى فيواصل حديثه لـ "الترا جزائر" "شاركنا في مبادرة تيرامو، بمناسبة عيد مريم العذراء، بدعوة من الأب أليسيو، القس الأنجليكاني، لتقديم خبرتنا ووجهة نظرنا حول جميع الأنشطة التي تم تنفيذها في السنوات الأخيرة على المستوى الوطني والدولي".

أما أعظم إنجاز لمسيرة خيرية كانت كما لو أنها كاسحة ألغام أزاحت كثيرًا من العوائق الثقافية والدينية والحضارية عبر بناء جسر إنساني يضمن الحياة المحترمة للمهاجرين، و يحقق من جهة، السلام الداخلي لمجتمعات محلية ترعبها خطابات يمينية متطرفة تروج للاستبدال العرقي للحضارة الغربية بالثقافات الإسلامية والصينية الغازيتين.

مركز فابريانو

هذه الخطابات تشبه تلك التي يطرحها إيريك زمور في فرنسا، فكانت بلا ريب، هذا الذي يفصح عنه الرجل: "في شهر نوفمبر 2022 نُظم بمصلى الرحمة ملتقى حضرته رئيس البلدية، السيدة دانييلا غيرجو، ومدير الرابطة الإسلامية الإيطالية، الدكتور عبد عزيز سرحان، والأب أليسيو كبير طائفة الكنيسة الأنجليكانية، وشمل الحوار عالي المستوى مناقشة أربعة أفكار أساسية، حرّية التعبير والفكر؛ حرية الجميع في الصلاة إلى الله وفقًا للتقاليد الخاصة، التحرر من العوز الاقتصادي والاجتماعي، التحرر من الخوف، مع انتهاء الحروب العدوانية في كل مكان في العالم".

عبد القادر مكري لـ "الترا جزائر": الخدمات الخيرية التي يقدمها المركز للمهاجرين والإيطاليين لا تقتصر على شهر رمضان فحسب

الأجمل من كل ذلك، وبفضل المركز الذي أشاع شآبيب الرحمة والأخلاق على الجميع، وكتكريم فخري، حملت التظاهرة النوعية عنوانًا مثيرًا: "فابريانو جسر للحوار في البحر المتوسط".