08-مارس-2024
 (الصورة: Getty) خبراء يحذرون من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي

(الصورة: Getty) خبراء يحذرون من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي

في مناظرة علنية بإحدى جامعات الجزائر قالت سمية (21 سنة) إن فيسبوك سجن مليء بالهاربين من الواقع وأنا واحدة منهم"، هي حقيقة تميل كثيرًا إلى فرضية مثبتة بين الجزائريين، فكثير منهم رغم اعترافهم بتأثير مواقع التواصل الاجتماعي على حياتهم، ويوميات أطفالهم، وتسببه في مشاكل يومية كثيرة، إلا أنهم الأرقام تُشير في كل مرة إلى توسع استخداماتها في المجتمع.

الأكاديمية كريمة لرادي لـ "الترا جزائر": هناك من يعيش حالة إنكار اجتماعي من خلال إظهار صورة يحبّذ أن يكونها الشخص، ما يعكس رفضه للواقع ولحقيقته، وربما يدمّر نفسه بنفسه

أما عن  توصيفها لمواقع فيسبوك بالسجن، فأجابت سمية على سؤال "الترا جزائر"، أن "الفضاء الافتراضي بمختلف منصّاته هو حياة جميلة نراها ونسمعها في دقائق معدودات، لكن أن نعيشها فهي مؤلمة، كثيرون يحبون الحياة السهلة التي تصورها السوشيال ميديا".

قبل أيام، تعرضت آلاف حسابات موقع فيسبوك إلى عطل وغيرها من الوسائط التواصلية، لمدة تزيد عن تسعين دقيقة، إلا أن كثيرين أبدوا قلقهم حيال ذلك، بل هناك من فكر في أن حسابه قد تعرض للقرصنة، أو لمحاولة القرصنة، ليتم بعد ذلك عودة الحسابات كما كانت بعد جهد جهيد، ويثبت البعض أنهم لا يستطيعون الاستغناء عن هذا العالم الذي يخفي الكثير من الأوجه.

حبة بصل..

ذهب البعض إلى اعتبار أن الفضاء الأزرق ساحب وجاذب والكثيرون يتنفسون من خلاله، بل ولا يمكن الاستغناء عليه، بل انقطاعه لفترة زمنية قصيرة، تعدّ "امتحانًا عظيمًا لهشاشة الكثيرين"، مثلما كتب الناشط بن ساعد محمد نصرالدين، في حسابه الشخصي على موقع فيسبوك، بل هو عبارة عن " ذاكرة، والإنسان دون ذاكرة يبقى على حافة العدم"، كما وصف الانقطاع المفاجئ وقلق الآلاف من هذه الخطوة بأنها تنبئ عن ولادة " يتامى افتراضيين".

التشبيه بالبصل، قريب جدًا إلى عدد الهويات التي يصنعها أي فرد حول نفسه من خلال الفضاء الافتراضي، والطبيعي أن الهوية الحقيقية لا تظهر في غالب الأحيان، بل الهوية الافتراضية كثيرًا ما لا تتطابق مع الواقعية أو حتى تناقضها تمامًا.

"انزلوا للشارع، أو اهبطوا للميدان، أو اخرجوا للحياة"، قد تجرُّ هذه العناوين إلى الحديث عن احتجاج أو اعتصام ولكن الأمر بعيد كل البعد عن حالة غضب أو لحظة فورة احتجاجية أو إعلان اعتصام لتقديم لائحة مطالب محدّدة، بل يأخذنا نحو ضرورة غلق شبكة الإنترنت والخروج للحياة، فالوقت يمرّ والحياة هناك خارج الإطار الضيق، وليس هنا خلف هذه الشّاشة الصغيرة، واللّهفة لشحن البطارية، وانتظار ملحّ على ردود مواقع الدردشة، ومواقع الموضة، وقراءة مواد وتدوينات وتعليقات يزخر بها جِدار الشّبكات الاجتماعية.

بغض النظر عن وظائفه المتميزة والإيجابية لكثيرين، إلا أن حالة الارتباك التي أحدثها الانقطاع، تنبئ بسؤال جوهري: ماذا لو تخلى العالم عن هذا الفضاء، وعن الانترنت جملة وتفصيلًا؟

يقول الناشط الحاج الطاهر بولنوار، في تعليق له على الحادثة، إن قطع الفيسبوك قد يؤدي إلى اكتئاب كثيرين وربما ينتحر بعضهم، والسبب حسب رأيه كما أورد: "لأنّهم ربطوا حياتهم بموقع فيسبوك".

تجميل الحقيقة

في وصفها للفضاء الافتراضي، تقول أستاذة علم اجتماع الاتصال من جامعة الجزائر، كريمة لرادي، هو أشبه بـ" شارع مغلق، جدران كثيرة لهويات متعدّدة، قد يحملها الشخص الواحد بأسماء متعددة"، مضيفة بأنه "بعيدًا عن الوظائف والخدمات الإيجابية التي يقدّمها لنا يوميًا، من تقليص الجُهد والوقت في التّواصل والدراسة والتعلّم" إلا أنه سجن مغلق علق الكثيرين.

الخطر في كلّ هذا كما تقول لرادي لـ" الترا جزائر"، أنه بالإضافة إلى أن الجدار الافتراضي يعكس هويات متعدّدة للشخص الواحد، تبدو أن عملية عرض الذات في الفضاء الأزرق مثلًا، هي في الغالب ليست الحقيقة التي تعكسها في الواقع، و"ربما تجرّ أصحابها للانفصام، وحتى الجنون".

تفسر قائلة: "هناك من يعيش حالة إنكار اجتماعي من خلال إظهار صورة يحبّذ أن يكونها الشخص، ما يعكس رفضه للواقع ولحقيقته، وربما يدمّر نفسه بنفسه".

بالنّسبة لأولئك الذين يقضون يومهم أمام الشاشات وخلف هواتفهم النقالة، يرتفع لديهم مستوى احترام الذّات والشّعور بالانتماء لمجتمع ما، وغالبا ما يكون هذا المجتمع المغلق خلف الفضاء الافتراضي هو ما يمثّلهم ويشعِرهم بـ "الأمان".

في المقابل من كل ذلك، فإن المجتمع الافتراضي يستقطِب الملايين كهويات مرغوبة اجتماعيًا وهي التي يطمحون في أن يصل إلى تحقيقها في الواقع، لكنّها في الأخير "هويات تحمل الكثير من الزّيف، بل هناك من يضع هوية مزيفة ثم يعيش على أساسها".

انفصام افتراضي

اللاّفت أن العلاقات التي تبنى من خلال الفضاء الافتراضي، لا تدوم أو تتلاشى مع الوقت إن بنيت على أساس مصلحة ما أو مصالح متعددة الأوجه، أو حتى لتوافق في وجهات نظر، إذ كانت الأخيرة تعبر عن شخصية وهمية باسم وهمي، لكنها تتراجع فتذبل حتى تزول وتفنى.

أما العلاقات المبنية في الواقع تزيد متانتها إن انتقلت إلى الافتراضي، الذي ربما يكشف عما تخفيه حتى في الواقع، بل أحيانًا يزيدها قوة أو تذهب هي الأخرى نحو الزوال بسبب تشعب عدد العلاقات الافتراضية التي يعقدها من خلال الشبكة العنكبوتية فيتيه بين الأسماء والأشخاص وكثرة العلاقات.

يقول كريم بلجودي (طالب بجامعة قسنطينة) شرق الجزائر، إنه اكتشف مع مرور الزمن أن "السوشيال ميديا صنعت إما لترفيهنا أو لسجننا، فلا شيء آخر"، موضحًا بأن العلاقات التي ينسجها الناس من خلال هذه الوسائط لا تكلف العناء الكثير بالضغط على زرّ، لكنها في الآن نفسه مكلفة للوقت وللاستنزاف النفسي والمزاج، وتتبع أثر الآخر، كما أنها تسحب النفس إلى كل ما هو مؤقت، في النهاية تلبية رغبة أو نشوة أو سعادة لفترة زمنية قصيرة".

يعترف بلجودي قائلًا لـ" الترا جزائر" إنه أصبح فرد واحد ولكن بشخصيات متعددة، إذ هو ذلك الطالب الجاد في الفترة الصباحية، أما في الظهيرة هو ذلك الشخص الذي يبرر للآخرين من زملاء الجامعة فحوى تعليقاته في الفضاء الأزرق، وفي المساء هو ذلك الإنسان الذي يعود أدراجه للبيت ويغلق على نفسه الغرفة، فيجد "شبح إنسان" يتابع هذا ويقرأ لهذا ويعلق على هذا ويضحك من فيديو منشور هنا، كما يدخل في معركة خاسرة من البداية بسبب نادي كرة قدم..

قبل قهوة الصباح

من تجارب البعض فإن المواقع الافتراضية، أصبحت تشبه صورة وضعت في إطار جميل وعلقت على جدار بغرفة، فالشخص الذي تعوّد على الشّبكات الاجتماعية، وأصبح مدمِنا لها، لا يمكنه التخلّص منها لأنه أغلق على نفسه من استنشاق أكسيجين الحياة.

وأكثر من ذلك، يغلب على البعض شعور سيئ بمجرّد عدم الاطّلاع على هويتهم الرّقمية كل يوم أو كل لحظة، وتفقّد الرسائل وانتظار التعليقات وإشارات المعجبين، حتى في أول لحظات الاستيقاظ من النوم وقبل ارتشاف فطور الصباح.

بعيدًا عن التفاعل في هذا الفضاء، فإن البعض يدخل في عداوات مع الآخرين، بسبب تعليق أو بمجرد ردّ على تدوينة أو عدم التعليق على رأي أو عدم الرد الفوري على رسالة في الحساب الخاص.

وفي هذا الصدد، تشير نادية (موظفة في شركة خاصة) إلى أن حياتها صارت جحيم لأنها تنشر بعض تفاصيل من يومياتها في العمل وفي البيت عبر السوشيال ميديا، موضحة: "صرت أبرّر يوميا وأشرح بعض التفاصيل المبهمة لدى الآخرين وخاصة الأقارب وأجيب على أسئلة لم أتوقع يوما أنها ستُطرح من باب الفضول ثم التدخل في كل" كبيرة وصغيرة"، لقد جاء اليوم الذي انقطعت نهائيًا عن هذه الوسائط، وصارت حرة بالمعنى الحقيقي للكلمة وخرجت من السجن الأزرق.

وأضافت لـــ"الترا جزائر" أنه "بمجرد ما نركز عليه نفقد جزءًا من شخصيتنا القديمة، ونضيع مع الوقت في البحث عن: من نحن ومن نكون؟ وماذا نريد؟ أسئلة تجعلنا نعيش في دوامة كبيرة لا خروج منها، أو لا يمكننا الإفلات من قوتها"

تجربة التحكّم

على خلاف ذلك، استثمر كثيرون هذه المواقع في إنتاج المحتوى الهادف، إذ يدخل استعمالها ضمن أطر عملهم اليومي ومصدر رزقهم، لكن التحكم فيها من الصعب بمكان، حسب ما يقول عبد الباقي (34 سنة) الذي يملك شركة مقاولات والبناء، لأن عمله بواسطة الشبكة العنكبوتية أدخله دائرة جدال ونقاشات تحولت إلى صراع بين بعض المعلنين والمهتمين بمجال البناء وإعادة ترميم البيوت والتهيئة.

ويشرح عبد الباقي لـ" الترا جزائر"، بعض المشاعر التي صعدت معه أثناء تصفحه لبعض المواقع الإلكترونية عبر السوشيال ميديا، إذ يقول عنها، بأنه كلما دخل حسابه المهني، شعر بنوعٍ من الخوف والسوء ويتعكر مزاجه، وعندما يغلق الحساب ويخرج للعالم في الخارج، يتواصل ذلك الشعور وكأنه سيدخل في معركة مع أحدهم.

كثيرًا ما تكون محتويات المنصات الرقمية، بعيدة كل البعد عن الواقع الجزائري، وطريقة العيش واختفاء بعض القيم الاجتماعية، التي كثيرًا ما اختزلها هذا الفضاء في المشهدية، وربما تم تمييعها، إذ ساهم في تفتيت بعض الأسر والمجتمعات أيضًا.

الواقع علاج

كثيرون خاضوا تجربة الابتعاد عن هذا الواقع الافتراضي لفترة محددة، وتجريب العودة للحياة، وعملوا ما يطلق عليه علماء النفس اليوم بـ" ديتوكس افتراضي" أي التخلص من سموم هذا الفضاء فوجدوا أنهم ضيعوا الكثير من الوقت، ولم يحسنوا استغلال إيجابياته.

يشبه الفضاء الافتراضي السوق الكبير الذي يعرض على الناس مختلف السلع، هنا خلف الشاشات الزرقاء، وذلك ما يؤثر نفسيًا واجتماعيًا على الأفراد، إذ يحذر الباحث في علم النفس فريد عزري من نشر سموم الكراهية، ويوجه دعوات إلى التركيز على الفرص التي يمنحها مثل التعلم والتجارة والانفتاح على الآخر، فضلًا عن اقتراح اختيار طريقة استعماله من حيث الوقت والمواد التي يمكن الاطلاع عليها.

الباحث في علم النفس فريد عزري لـ "الترا جزائر": يجب التركيز على الفرص التي يمنحها فيسبوك مثل التعلم والتجارة والانفتاح على الآخر

في الأخير نبه عزري في تصريح لـ"الترا جزائر"، أن الجزائر اليوم كمؤسسات جامعية ومؤسسة العائلة وغيرها من مؤسسات المجتمع مطالبة بالمتابعة والتوجيه نظرًا لأضرار هذه الفضاءات المتعددة، وضرورة الابتعاد عنها بين الحين والآخر،  وذلك "لأجل سلامتنا النفسية والعقلية والذهنية، بعد أن باتت اليوم "تحاصرنا في كل مكان وتقيّد أيدينا وتشلّ حركتنا".