22-مارس-2024
مقهى بقرية كريشتل

مقهى بقرية كريشتل (الصورة:Getty)

عندما يرتفع آذان صلاة المغرب ويحين موعد الإفطار، "لا يمكنني إلا استحضار نكهة القهوة ورائحتها ولونها، فكأنما ارتشاف فنجان قهوة على مهل وببطء يشبه شرب عصير ساخن بلذة الرشفة الأولى، وهي التي توقظ ذلك الغارق في سبات عميق فجأة".

بالرغم من انتشار محلات الشاي في الجزائر وانتقاله كمشروب ساخن من الصحراء إلى مدن الشمال، إلا أن مكانة القهوة مازالت تتربع على عرش المشروبات الساخنة

هكذا وصف أحدهم قصته مع القهوة في شهر رمضان لـ" الترا جزائر"، كما هي عند الكثيرين، فهي: "عصير البنّ اللذيذ، الذي يقوم بعملية مسح شامل للأعصاب، في محاولة منه في تفقُّدها واحدًا تلو الآخر، إلى حين الاستيقاظ الكامل، أما رائحتها فهي منعشة للخلايا التي أصيبت بوهن طوال يوم كامل من الصوم".

يواصل قائلًا: "عبق رائحة القهوة القوي الذي يميّزها عن عشرات الروائح، يعطّر كامل الدماغ وينعشه، بعد أن ينظّف كل ما علق منه من شوائب شكّلت له ضبابًا شاملًا لساعات طويلة، كما سببت عدم وضوح الرؤية للعين وعدم القدرة على مناقشة أي موضوع، وتشويه التفكير أيضًا وربما مفعولها أثّر على نفسيته ولم يقوَ على التحكم في عصبيته".

هذا ما يفعله المشروب البني السحري، للكثير من المدمنين عليه، فمفعول القهوة القوي له أثر كبير، وهو ما تعزّزه الجملة التي يرددها البعض بالعامية الجزائرية: "نْقعَّدْ راسي" أي سأشرب فنجان قهوة لأعدل به المزاج حتى أتمكن من الحديث أو التجاوب في موضوع ما أو حتى التعامل مع الغير.

تأتي القهوة على رأس قائمة المشروبات المعروضة في المقاهي المفتوحة في الجزائر والصالونات المغلقة، كما لا يختلف الكثيرون في تحميلها رقم واحد في قائمة المشروبات الساخنة، ومقارنة مع ما هو معروض ومتوفر من المشروبات التي يتناولها الشباب الجزائري، ليليها مباشرة في الترتيب الشاي الأخضر.

أحيانًا تُستعمل القهوة كمشروب مصاحب لحالة " الخَلْوِي" كما يقول الأستاذ الجامعي، سليم مناري، فرغم إنقاصه لعدد المرات التي يشرب فيها القهوة خلال اليوم، إلا أنه لا يختلي بنفسه عند إنجاز بحث أو المطالعة أو تحضير ورقة إلا ويرافقه فجان قهوة.

ولفت الأستاذ مناري في حديث لـ" الترا جزائر"، إلى أن ارتشاف القهوة، يعني أيضًا الدخول في حالة الإدمان فالرشفة الأولى تسحب صاحبها نحو الرشفة الثانية ثم الثالثة إلى أن تنتهي تلك الكمية من الفنجان، بل هناك من يشرب القهوة إلى غاية آخر قطرة بل القطرة الأخيرة هي الألذ والشافية لأوجاع الرأس.

ثنائية .. لا انفصال

محاولة الوصول إلى تحسين المزاج لدى الكثيرين، لا يتم في غالب الأحيان إلا بالقهوة والسجائر، يقول البعض لـ"الترا جزائر"، فهما طريق واحد للإحساس بحالة من الاسترخاء والانتباه لما يدور حولهم، فيما تنبعث الحياة في يومياتهم، بمجرد ارتشاف القهوة وتناول سيجارة.

عندما تمتزج رائحة القهوة بسيجارة، فالأمر مختلف لدى سمير (29 سنة)، إذ وصف ذلك بقوله لـ"الترا جزائر" "كأنما شحنت نفسك كما تشحن السيارة بالوقود، فكلاهما مكمل للآخر، ودون السيجارة لا تحلى القهوة ولا تنتعش النفس دون القهوة أيضًا".

وفي هذا المضمار، حمل المخيال الشعبي الجزائري مقولة شعبية تشير إلى أن هذه الثنائية تشبه ممرات القطارات الحديدية، كلا الطرفين أي القهوة والسيجارة يقودان مملكة، بل من يتناولهما يحسب مكانته أرفع وأهم وأغنى من الملك أو السلطان في حدّ ذاته.

هذا ما يلوِّح به المثل الشّعبي القائل "قهوة و قْارُو خِيرْ مِنْ السُّلْطَانْ فِي دَارُو"، فهو شعار ظلّ مسافرًا لعقود من الزمن، ولم تغيره المنافسة التي لقيها مشروب القهوة، من قِبل الشاي وخاصّة منه المصنوع بأنامل أبناء الصحراء الجزائرية الذين استثمروا في هذه التجارة بشكل مبهر ولافت أيضًا.

"خاصّتك" قهوة

بالرغم من انتشار بارز لمحلات الشاي في الجزائر وانتقاله كمشروب ساخن من الصحراء إلى مدن الشمال، إلا أن مكانة القهوة مازالت تتربع على عرش المشروبات الساخنة، وظلت محافظة على القمة، ولم يتمكن المشروب الأخضر من زحزحتها من أعلى السلّم رغم محاولات الزعزعة التي طالتها خلال السنوات الأخيرة.

الإقبال على الشاي في رمضان الجزائر لافت أيضًا، إلا أن كثيرين يستعملون عبارة "خاصّتك قهوة"، وهي جملة تقال للشخص الذي يغضب أو يشعر بنرفزة، ثم يحولها إلى شجار بين رفاقه أو جيرانه أو زملاءه في العمل خلال فترة الصيام، ويشار إلى أن غضبه راجع إلى عدم تناوله للقهوة.

بعيداً عن السكر، لجأ البعض إلى تغيير طعم القهوة وتجريب الطعم الأصلي وهي القهوة المرّة، من دون سكر، كما يقول بعضهم لـ"الترا جزائر"، فيما يعشق البعض شربها مثل مذاق عصير حلو مذاقه، بأكثر من ملعقتين من السكر الأبيض.

في مقابل ذلك، يصر البعض على ارتشاف قهوة خفيفة على المعدة، بينما يلجأ البعض إلى المشروب الثّقيل، ولا يتناولها إلا إذا لاحظ أنها أثقل من قطرة عسل.

مواعيد مقدسة

ظاهرة التعلق بالقهوة، ليست مرتبطة بشهر رمضان فقط، بل هي "مشروب مقدّس" لدى كثير من الجزائريين في عدة مناطق، يمتد لعقود من الزمن، كما ارتبطت أيضًا بطقوس ومواعيد محددة تلاشت بعضها في يومنا هذا.

بالعودة إلى قائمة يوميات الجزائريين في عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة، نجد ما أوجدته ظروف الحياة اليومية، ما كان يسمى: "قهوة العصر" أو " قهوة لعْشية".

قدسية التوقيت مرتبطة بما بعد أداء صلاة العصر، لذا أخذت من التوقيت الديني عنوانها، كما تفيد حسينة بن عبد الرحمان بأن موعد ارتشاف النساء للقهوة في أحد بيوت الجارات كان مقدسًا في الماضي لدى الأسر، إذ ترتبط بموعد آذان العصر، وتقدم القهوة مع بعض الحلويات التقليدية أو "خبز الجوزي".

وغالبًا ما تلتقي النساء حول مائدة "قهوة العصر" في بيوت إحدى الجارات لتجاذب أطراف الحديث في تلك " القعدة" كما تقول محدثة "الترا جزائر"، وفي أيديهن أدوات الطرز والحياكة، وهي الفترة التي يمكنهن العمل والحديث عن مشاغلهن في الحياة في الآن نفسه.

تتطلّب " قهوة العصر" صينية مصنوعة من النحاس مع مرش مصنوع أيضًا بالنحاس يوضع فيه ماء الورد المقطر ونبتة العطرشية، ويتغير مكان تلك الجلسة بعد صلاة العصر كل يوم، ولكل امرأة دورها في استضافة نساء الحي لشرب القهوة.

ففي مناطق الجلفة وبوسعادة والمسيلة اشتهرت جلسات أخرى تسمى بـ" قهوة النوايل"، نسبة إلى عرش أولاد نايل، وتتميز هذه القهوة بأنها حاضرة في كل وقت، كما تقدم للضيف فور دخوله البيت، وفي مقاهي بوسعادة تُشتهر قهوة جزوة، وهي طريقة قديمة في تحضير القهوة تعود إلى فترة ما قبل الاستعمار الفرنسي، ولازالت بعض المقاهي العريقة تحافظ على هذا التقليد إلى اليوم.

إلى هنا، تقول المهتمة بالتراث الشعبي الجزائري وسيلة حدو من منطقة عين وسارة جنوبي الجزائر، إن البعض أيضًا يصفها بـ"قهوة الضحية" أو قهوة وقت الضحى.

طريقة تحضير هذه القهوة تختلف كثيرًا عما نلاحظه اليوم، إذ تشرح السيدة حدو قائلة إن هناك "القهوة المخلطة" إذ تضاف القهوة في الماء وتترك على النار حتى الغليان، وبعدها يُضاف لها القليل من الفلفل الأسود وورقة من نبات الشيح، ثم توضع في فنجان وتتم تحليتها حسب الذوق.

يصر البعض على ارتشاف قهوة خفيفة على المعدة، بينما يلجأ البعض إلى المشروب الثّقيل، ولا يتناولها إلا إذا لاحظ أنها أثقل من قطرة عسل

 والدليل على أنها من أهم أنواع المشروب السحري رواجًا في مناطق التل الجزائري، ما قيل باللهجة الجزائرية:" القهوة المخلطة سكنت في الراس، لازم تطيب صباح وعشية". كما تعرف أيضا هذه المناطق بـ" قهوة لفْرارة"، وتحضر عن طريق خلط القهوة مع الماء وقليل من السكر وتوضع على نار هادئة، إلى غاية أن يستوي المشروب الساخن، وتقدّم مع حلويات تقليدية.