22-مارس-2024
رمضان في الجزائر (الصورة: Getty)

في أحد أحياء بوفاريك بولاية البليدة (الصورة: Getty)

لم تعد تلك الحكايات التي نسمعها عن شهر رمضان وعاداته ما يثير الجزائريين اليوم، ولكن الأهم في تلك التفاصيل الصغيرة والبسيطة، نوعية العلاقات المنسوجة بفضل الشهر الكريم بين الأفراد في العائلة الواحدة وبين العائلات في الحي الواحد وبين الأحياء في المدينة الواحدة وبين المدن والضواحي في البلد الواحد وبين الأرض التي تربط الشعوب في الجغرافيا المتلاصقة.

كثيرون يصفون ذكريات الماضي بـ "ريحة زْمان"وكأن هذا الزمن ترك رائحته وآثاره ومضى

يسمع الجزائريون هذه الحكايات بعدما تناقلها البعض عن الأجداد، أو يتمثلونها من خلال الحصص التلفزيونية التي تعرض بعض القصص عنها على الشاشات، أو يطالعون عن تفاصيلها عير روايات مدونة في مواقع التواصل الاجتماعي، فتربطهم بين الحاضر والماضي بحنين قوي.

كثيرون يصفون ذكريات الماضي بـ "ريحة زْمان"، وكأن هذا الزمن ترك رائحته وآثاره ومضى، ولن يعود باتاتًا. فالماضي بالنسبة لكثيرين جميل جدًا، ولا يمكن استرجاعه، أما عاداته صمد منها ما صمد واندثر منها ما لم يتمكن من المقاومة.

إلى هنا، تسرد السيدة زبيدة(75 سنة) بأنها كيفما جربت في سنوات حياتها، إلا أن قصّة رمضان انتهت فصولها عندما تشتت العائلات وافترق الجيران، بعدما كان شهر الرحمة والغفران هو عرس قائم لمدة 30 يومًا.

تقول لـ"الترا جزائر"، إنها عاشت في حي قصر الماء، أحد أكبر أحياء مدينة ميلة شرق الجزائر، وتعوّدت أن تقضي يومياتها في هذا الشهر الفضيل مع الجيران، الذين يمثلون لها أكثر من الأقارب والأهل، إذ تعود الجميع تشارك الإفطار فيما بينهم، بما يوسم بـ"لمة الإفطار ولمة السهرات" أيضًا.

تحاول أن تسترجع القليل من تلك الذكريات العالقة في الذهن، وبعضها تفاصيل ارتبطت بالروح بفعل التجارب، إذ تضيف قائلة: "رمضان بالنسبة لنا هو ضيف يعود كل سنة وتعود معه اللمة والفرحة والبهجة والسهرة، فكل يوم يمر نقضيه عند أحد الجيران وكل جار دوره في استضافة جيرانه".

تنقل الأطعمة

في المقابل من ذلك، ارتبط رمضان في مخيال كثيرين بمختلف أصناف الأطعمة والأكلات الشهيرة في الجزائر، فبعودته تعود بعض السلوكات والمظاهر التي تميزه عن بقية أيام السنة، خاصة منها ما تعلق بفنون الأكل وإشباع البطن.

وفي هذا الصدد يقول سيد علي عمارة (68 سنة) من منطقة "بلكور" وسط العاصمة الجزائرية، بأنه بحلول شهر رمضان، تعود معه تجارة صناعة الزلابية وقلب اللوز والشاربات والقطايف والديول وغيرها.

هذه التجارة تصبح في هذا الوقت المنفرد من كامل أشهر السنة، الأكثر رواجًا، لكثرة الطلب على هذه الأنواع من الحلويات والمأكولات، وبدورها باتت علامة خاصة برمضان.

وبالرغم من أن الأطباق العصرية غزت الموائد الجزائرية، في الشهر الفضيل، إلا أن أغلب العائلات تحافظ على قيمة ثقافة الأطعمة المتعلقة بمناسبة رمضان من أطباق شعبية، إذ تحضّر النساء صنوف الأكلات التي ترمز للشهر الفضيل والتي تحوز على مكانتها في قاموس الطهي، بدءً من الشوربة وطاجين لحلو والسفيرية والبوراك أو البريك.

لكن بالمحصلة ما غاب عنها هو "البنة" أو تلك النكهة والطعم الذي اختلف كثيرا باختلاف العلاقات الاجتماعية ومدى تمسك الجزائريين بالعلاقات الإنسانية التي تربطهم فيما بينهم، كأسر وكعائلات في حي بحكم الجيرة في معظم المدن الجزائرية.

وبالرغم من تلك المحاولات الحثيثة في استرجاع تلك النكهة وتلك المظاهر المادية، إلا أن أغلبها بقي في خانة استعادة العادات، والحديث عنها أو "رسكلتها" ولكنها باتت اليوم مثلما يقول " بلا نكهة ولا رائحة".

الأمكنة: بئر أسرار

حتى وإن حاول البعض استرجاع تلك السلوكات والطقوس، بسرد الذكريات بكل عاطفة وشجن وطاقة تشحن الروح قبل عيشها في الواقع، إلا أن الأمكنة وحدها من تحفظ تلك التفاصيل.

الكثيرون يحاولون ذلك، من استذكار لحظات العيش في الماضي خلال شهر رمضان، فيسافرون إلى ربطها بالأمكنة، خاصة في القصبة العتيقةوالسويقة بقسنطينة وحي الدويرات بولاية البليدة ومدينة القليعة بولاية تيبازة وغيرها من الأحياء والمدن العتيقة في الجزائر.

هذه الأحياء تعيد سرد طقوس الشهر الكريم، وتلك الجلسات العائلية التي تزخر بالزيارات بين الأهل والأقارب والجيران والسهر لساعات طويلة، بعد صلاة التراويح، لذا يصفها البعض بأنها " البئر الذي يحفظ أسرار من مروا.

في علاقة بشهر رمضان، هناك ثغرة بين الأمس واليوم، وفجوة بين الماضي والحاضر، إذ اختلفت الطقوس اليوم، وبقي من القديم ما تتناقله بعض العائلات أو تتداوله الألسن في عبارة مشهورة في الجزائر:" كِي كُنّا بكري" أي عندما كنا في الماضي كنا كذا وكذا، ليبرز القائل تلك اللحظات الجميلة، وحسرته على أنها لن تعود، أو عبارة " كانوا بكري" وذلك أثناء الحديث عن عادات الأجداد الجميلة، ويُعاد تصويرها بأنها الأفضل من اليوم.

يلخص الكثيرون في الجزائر، الماضي في عبارة تكررها الألسن وتقول: "راحْ الزّْمَانْ بْناسُو"، أي أن الماضي ذهب وأخذ معه كل من كانوا يعيشون فيه وصناع تلك الطقوس الجميلة أيضًا.

لكل زمن طقوسه

على خلاف ذلك، يصر المخيال الشعبي الجزائري على ضرورة الموازنة بين الماضي والحاضر، ويمكن قراءته في عبارة أخرى صارت اليوم من الأمثال الشعبية المترسخة في أذهان الجزائريين تقول: "الجْدِيد حبُّو والقْديم ما تفرِّط فيه".

هذه العبارة بمثابة دعوة حثيثة إلى التمسك بأي شيء جديد ولكن دون نكران الهوية والماضي الذي يعبر عن الأصالة والتراث والتاريخ.

ذكريات رمضان أصبحت "عابرة"، لأنها تمرّ على الذاكرة الشعبية توقظها أحاديث الناس حين تحين الفرصة، خاصة مع غزو الإنترنت وتنامي ثقافة العصرنة بشكل عشوائي وبلا حدود، مع تزايد الإقبال على السوشيال ميديا.

وبهذا التطور التكنولوجي اللافت، يصعب اليوم ترتيب اجتماع عائلي حول مائدة واحدة لتناول موضوع معين أو حتى خلق حوار بين مختلف أفرادها، في المقابل بانت لكل فرد من أفراد العائلة طقوسه الخاصة.

حينما يتحدث الجزائريون عن شهر رمضان، يشعرون بحسرة وغسرة وحنين لذلك الزمن الجميل، ويعتقد بعضهم بأن تلك اللحظات أكبر الأوقات التي تحمل بين تفاصيلها الأبعاد الاجتماعية والإنسانية.

ترجع المختصة فريدة بن صافي الفجوة الاجتماعية إلى تغير منظومة العائلة الكبرى وانقسامها إلى أقسام بفعل غلبة الأسرة الصغيرة

وترجع المختصة في علم الاجتماع الأستاذة فريدة بن صافي من جامعة مستغانم غرب الجزائر هذه الفجوة الاجتماعية إلى تغير منظومة العائلة الكبرى، وانقسامها إلى أقسام بفعل غلبة الأسرة الصغيرة، مشيرة لـ"الترا جزائر"، بأن لكل زمن طقوسه وتفاصيله، فالتقدم التكنولوجي أسهم في بروز ظاهرة الفردانية والخصوصية، التي طغت فعليا وتقهقرت معها فاعلية المجموعة.