30-مارس-2024
مسلسل الرهان (فيسبوك)

مسلسل الرهان (فيسبوك)

"عندما تتعافى ستروي القصة بشكل مختلف"، و"عندما تعود لمكان الأحداث ستجد قصة مختلفة، وسترويها بطرق متعددة"، كلا العبارتين تنسجمان بشكلٍ واضحٍ مع مختلف القصص والأحداث التي نعيشها.

أعاد مسلسل "الرهان" الحياة للأحداث الحاصلة في زمن بدأت فيه الجزائر تتحرك نحو رفض العهدة الرابعة بالعودة إلى قصة البطل عيسى زياني

لكل منا زاوية نظر حول أحداث الحراك الشعبي، فقد تختلف منشورات النشطاء السياسين والحراكيين عن أقلام الإعلاميين في وصف اللحظة، ثم أقلام الكتاب بإصدارات فاحصة للحدث بعد الخروج من مرحلة الدهشة الأولى للمظاهرات في الشارع، وصولًا إلى استعادة الأحداث سينمائيًا.

أقلام الإعلام وكاميرا الفنان وتدوينات النشطاء وتسجيلاتهم، كلها التقطت تفاصيل مهمة للأحداث في الجزائر ودونتها بشيء من الإسهاب والارتجال، وإن كانت القراءات السياسية منها محكومة بقَدر الرواية الوحيدة، أو بتأريخ اللحظة، وقراءتها بتحليل أعمق، إن توفرت المعطيات.

مسلسل الرهان

الجرأة:  من  2014 إلى 2019

فعلا " الجرأة" هي من بين نقاط قوة مسلسل "الرهان" بغض النظر عن النقد الفنّي المتعلق أساس بالسيناريو والممثلين والتصوير وهو أمرٌ يخص أهل الاختصاص، إلا أن الدراما المحبوكة جيدًا في حلقاته، أعادت الحياة للأحداث الحاصلة في زمن بدأت فيه الجزائر تتحرك نحو رفض العهدة الرابعة بالعودة إلى قصة البطل عيسى زياني، وأدى دوره الفنان وكاتب السيناريو (عبد القادر جريو)، الرسام والخبير في مجال المحاسبة وتدقيق الفواتير عندما تعرّض لحادث محاولة قتل، وهو على دراجته وبرفقة صديقه  مراد، الذي توفي في تلك اللحظة الفارقة من عام 2014.

واقعيًا في التاريخ السياسي للجزائر، كان عام 2014 موعدًا حاسمًا للقوى السياسية وتمرير العهدة الرابعة رغم مرض الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وبوادر حركة احتجاجية في الشارع كل يوم سبت وثلاثاء كانت تسمى بـ"بركات" كرقم مهم في معادلة الصراع السياسي الدائر بين المعارضة والموالاة، وخروج ملفات وقضايا تغول الكارتل المالي، وبدأت الفضائح تتوالى.

دراميًا، تصور قصة السلسلة في ذلك التاريخ، عندما حاولت جماعة رجل الأعمال النافذ "عزيز توقار" محاولة الاغتيال التي تعرض لها "عيسى" التي كانت بسبب اكتشافه لملفات وثغرات مالية لفواتير وشركات وهمية بملايين الدولارات، فكان لابدّ من القضاء عليه، ولكنه نجا بأعجوبة بينما مات صديقه.

بإسقاط المشاهد سينمائيًا، فإن عزيز توقار الذي يحاول الحراك الشعبي إسقاطه، هو الشبيه برجل الظلّ السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، أو برجل الأعمال النافذ وقتذاك في الجزائر  علي حداد، أو أي رجل أعمال ذو نفوذ أمثال طحكوت وغيرهم.

لكن الموت لم تغير فكرة الزعيم النافذ توقار من القضاء على عيسى وإبعاده من الساحة، بل كان مآله السجن بتهمة عثور الشرطة على كمية من المخدرات في بيته، وهي مخطط لها من توقار، انتقامًا منه وإبعاده عن الساحة.

الرهان

5 سنوات سجن وعهدة رئاسية

في السجن، وفق هذا المسلسل الرمضاني، لم ينجُ عيسى من تسلط الفساد، ومن بعض حراس السجن أيضًا، في علاقة بين داخل السجن وخارجه، إذ عانى كثيرًا من أشخاص كانوا بالنسبة له دروسًا واختبارات غيرت نظرته نهائيًا لما كان يوسم بـ" الشهامة" وتلك المبادئ والقيم التي حاول جده رمز الثورة الجزائرية أن يعلمه إياها. تعرف في السجن على بوعلام الذي سيكون ذراعه الأيمن في الانتقام من الفاسدين حينما يفرج عنه.

من دروس الصدمة، خاب ظن عيسى في القانون بداية بالضابط الذي غدر به وأخفى ملفه الأول الذي تضمن أقواله حينما اشتكى بـ"العصابة" وباع ملفه لرجل الأعمال توقار، ثم يُحكم عليه لخمس سنوات بالسجن بسبب توريطه في المخدرات التي وجدت في بيته.

خارج السجن متغيرات كثيرة، فالفتاة ريم خطيبة عيسى قبلت بالزواج من رجل الأعمال الذي تسبب في سجنه، وتنتهي قصة حبها مع  عيسى  بين المال والسفر، في حين كانت هي الأمل الوحيد الذي ربطه بالحياة، ولكن...

بعد خروجه من السجن، كانت الجزائر على أهبة ثورة شعبية، أو فورة اجتماعية ضد الفساد وضد العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة، وهي الحركة التي جعلت من توقار  المطلوب رقم واحد من الجهات الأمنية والقضائية في البلاد، يلجأ للتخفي في مزرعة ويحاول الهروب عبر الحدود البرية للجارة الشرقية تونس.  

يبدو أن كاتب السيناريو قد قرأ الأحداث بنظرة شاملة ومن بعيد، مع بعض التوابل الفنية وتصوير الجزء الآخر من رجال الفساد، بمحاولة الاقتراب أكثر من الموضوعية التي يتوق لها.

لقد أعاد المسلسل الحياة للأحداث الحاصلة في زمن متحرك، مثلما يلاحظ، فور خروج عيسى من السجن، وعقله في " الثأر" في المقابل يصور أحداثًا جرت زمن الهيجان الذي شهده الشارع الجزائري، والدعوة إلى محاكمة الفاسدين على رأسهم عزيز توقار ومختلف الشخصيات في دهاليز المال والأعمال التي كانت على رأس قائمة التحقيقات الأمنية.

بلا مغالاة، فإن المناخ الزماني للمسلسل يؤكّد أنه لأول مرة نشاهد عمل درامي يتناول مرحلة تاريخية وسياسية بشجاعة، في اختلاف كبير عن  المسلسلات الأخرى، فهو قد لفت النظر إلى أن الأحداث كانت تتطور كل يوم، بتطور السيناريو إذ لم نطالب بـ"صدمة البدايات" بل كانت فيه فسحة كبيرة وتشويق.

الرهان

المراهنة على الشارع أم على القانون؟

"الرهان" هو أول مسلسل يلامس غضب الشارع في 2019، يصفه الكثيرون بأنه " فورة شعبية" وغليان ضد الظلم والضيم الذي عاشته فئات كثيرة في المجتمع الجزائر، وهو ما يتم تصويره لاحقًا في تفاصيل القصة الفنية ذات الحبكة الدرامية، وتشابه الوقائع المستمدة من قصة واقعية تصور تداخل الفساد المالي والسياسي والسلطة والنفوذ والسقوط في فخ المخدرات كعامل مشترك بين عدد من أبطال الواقع والمسلسل أيضًا.

لقد نجح المسلسل في مجال الدراما التلفزيونية بشكل كبير في تدوين تلك المرحلة الحساسة من تاريخ السياسي المعاصر للجزائر واقتناص لذلك التحول المهم لذي عرفته البلاد بين وجهين لعملة واحدة: الفساد بكل صوره، والأمل الذي لامس مشاعر الجزائريين.

بداية، تفرد المسلسل بمعالجته للحراك الشعبي عن باقي الدراما الجزائرية في الخروج من مواضيع المخدرات والشارع الاجتماعي، إلى معالجة قضايا ذات علاقة بالشأن السياسي أكثر.

اعتاد الجمهور الجزائري على دراما أبطالها في أروقة المخدرات أو رئيس عصابة أشرار، لكن في " الرهان تغيرت الحوارات ولاحت بعض الحكم الراقية، إذ وتقول الباحثة في الإعلام والتلفزيون بجامعة الجزائر سمية عيساني، إن  مسلسل الرهان عمل نخبوي لأنه غير نوعية البطل النمطي، وتناول مواضيع عن الحرية في الإعلام وعن المثقف العضوي وعن الكرامة، على حد تعبيرها.

اتهامات الصحافية سهيلة وشقيقة عيسى لمالكي الصحف والجرائد، من بين الحوارات التي تعبر عن الحرية في الطرح، حيث يقول لها عيسى إن نظرتك للصحيفة يكمن في أنها تشوش على الرأي العام وأن أصحابها كذابون ومنافقون، بينما البعض مثل حسان يعتقدون أن الصحيفة مجرد فضاء يستطيع من خلاله مساعدة الكثير من الناس.

وفسر قائلًا: "الجريدة بالنسبة له فضاء للحرية، في هذه المنظومة التي ترينها فاسدة، هو يعيش داخلها، في الأماكن المتقدمة، ويحاول التغيير من الداخل، مثل المثقف العضوي حسب غرامشي".

الرهان

أما الحديث عن التغيير، لامسناه أيضًا عندما قالت سهيلة إن حسان لن يستطيع التغيير، لأنه يفكر في أجرته الشهرية، لأنه حسب  عيسى يعيل عائلته، ولا يمكنه العيش فقط بـ"المبادئ"، لترد قائلة: "ستتوقف الثورة بسبب أولئك الذين يخافون على فقدان أرزاقهم".

تجاوز عيسى عقدة الخوف من الفساد، معبرا عن ذلك باستدعاء حكمة الثائر والناشط السياسي (مارتن لوثر كينغ)، حينما قال: "ما يخيفني ليس ظلم الأشرار، بل صمت الأخيار".

"الرهان" أوضح بشكل واضح الصراع بين (عيسى وتوقار) هو صراع مبادئ، إذ تضيف الأستاذة عيساني بأن هناك حكايات جانبية كقصص الحب التي يعيشها الشباب في الجزائر بين ياسين لاعب كرة قدم وديما الابنة الثرية، وبين عيسى وأحلام بائعة القماش وهي في الوقت نفسه ضابط شرطة تحاول أن تساعده للخروج من المأزق، في مقابل ضابط شرطة آخر فاسد يبتز رجال الأعمال ويخوّفهم بالتحقيقات الأمنية ثم السجن ويساومهم على الحرية بالمال.

عيسى والتاريخ

يعزف مسلسل " الرهان" على الوتر التاريخي، والعودة إلى نضالات عائلات جزائرية شاركت بالنفس والنفيس في الثورة التحريرية وصورها المسلسل بأنها "البوصلة" في الحفاظ على الكرامة والمبادئ والعدالة من خلال شخصية الحاج رابح.

ويربط العمل بين الماضي والحاضر والمستقبل، والمرجعية الوطنية، والحاج رابح هو من منح حفيده اسم صديقه بطل المسلسل عيسى الذي استشهد هو يدافع عن الوطن في الثورة التحريرية المظفرة، إذ لأول مرة يرفض البطل هذا الاسم ويتساءل لماذا حمل اسم شهيد وهو يواجه حربًا كبرى مع رجل الأعمال الفاسد ورجاله. بل وأكثر من ذلك صار لا يؤمن بالحق والباطل والعدالة التي تواجه الظلم، بل أن حقه وجب أن يأخذه بالقوة.

الرهان

بعيداً عن "الترند"

يواجه " الرهان" حقيقة أوجاع الناس، وخوفهم الدائم من المجهول، في دائرة فساد استشرت خلال السنوات الأخيرة، وفي هذا الصدد يقول المستشار الفني لسيناريو "الرهان" الكاتب سعيد خطيبي، إن "المسلسل يراهن على الفن وحده، بعيدًا عن الدراما التي تبتغي "الترند" وتفتقر إلى القيمة"، وأكد على أن " الرهان" يغامر بالذهاب إلى التفاصيل حول مآلات الجزائر، وكيف وصلت البد إلى ما نحن عليه".

يواجه مسلسل "الرهان" حقيقة أوجاع الناس وخوفهم الدائم من المجهول في دائرة فساد استشرت خلال السنوات الأخيرة

بعيدًا عن الشخصيات، وحتى وإن بينها وبين بعضها في الواقع الكثير من الشبه، إلا تدوين تلك المرحلة، وتحولات الجزائر منذ الحراك الشعبي من خلال الأحداث التي تتحوّل مع "عيسى" إلى لعبة خطرة، وتتقدم أطوارها في كل حلقة، وتضع المشاهد أمام رهان الأم فاطنة، والدة عيسى التي أدت الدور جميلة عراس، وتصور قلق الأم الدائم على أولادها، ونصيحتها الدائمة له "يا بني ما تقدرْلهمش" (يا بني لا تستطيع مواجهتهم)، في مخاطرة بكل شيء، من أجل محاربة الفساد والفاسدين.